مقالات

غالية شاهين : المرأة السورية بين معتقَلَين

قد يشكّل إخلاء سبيل المرأة المعتقلة نهاية معاناتها المرعبة داخل الجدران المظلمة للأفرع الأمنية، لكنه، في الوقت نفسه، بداية معاناة حقيقية في معتقل من نوع آخر، يصنعه مجتمعها، ويقوم عليه كل من حولها.

ترافق المعتقلة، منذ اللحظة الأولى لخروجها، تهمة تعرضها للاغتصاب، وإن لم تتعرض له. ويأتي الحكم عليها مسبقاً من مجتمع لم يزل يعتبر الاغتصاب جرماً تُعاقَب عليه الضحية لا الفاعل. حيث تنبذ مجتمعاتنا المرأة المغتَصَبة، أو المشتبه بتعرضها للاغتصاب، وتحاكمها على جرم وقع عليها، وقد يصل الحكم حد القتل للتخلص من العار.
وبغياب نص ديني يبرئ الضحية، راح المجتمع العربي يقارب الاغتصاب لجرم الزنا، ويحكم عليه بأحكام مشابهة لأحكام الزناة، مع التخفيف، أحياناً، في الحكم على الضحية، ليصل، في أحسن حالاته، إلى تطبيق حكم اجتماعي فقط يعالج بطرق تختلف، حسب الحالة.
لم تسلم النساء السوريات من براثن النظام وأجهزته الأمنية، بل كان اعتقالهن واغتصابهن إحدى أقذر وسائل النظام في الانتقام من الناشطات في الثورة، أو الضغط على الثوار والناشطين الرجال، من خلال اعتقال النساء المقربات منهن. وعلى الرغم من استيعاب السوريين جميعا، رجالاً ونساء، هدف النظام المعلن في اعتقال النساء واغتصابهن، لإذلالهن وذويهن، وبالتالي، إدراكهم بأنه ظلم يطبّق على النساء عنوة، لكن ذلك لم يمنع، حتى الآن، التعامل القاسي مع المرأة المعتقلة، باعتبارها تحمل عاراً يجب التستر عليه، أو التخلص منه أحيانا. فتبدأ عملية العزل الاجتماعي الذي يصل، أحياناً، إلى حد القطيعة، إضافة إلى التهميش الذي قد يشارك فيه أقرب الناس إليها، لتبدأ المعتقلة “الناجية” من أقبية النظام حياة سجن جديد داخل قضبان جديدة لأقبية قد تكون أكثر ظلما.
وفي حين تحتاج الناجية، تعرضت للاغتصاب أو لم تتعرض، إلى دعم نفسي كبير وإعادة تأهيل، لتستطيع العودة إلى الحياة الطبيعية، يتظاهر المجتمع، أحياناً، بدعمها، ويطرح حلولا انفعالية خاطئة، تعمق الأذية النفسية للمعتقلة، وتثبت عليها تهمة جرمٍ لا ذنب لها به. كأن يتحمس أحد أقاربها، ويقرر “الستر” عليها بالزواج، وهو ما يهلل له كثيرون في مجتمعاتنا، باعتباره حلا اجتماعياً، لا يخلو من شهامة من قدمه.
وهنا، لا نشكك بالنية الطيبة والدافع الشريف لمن يقدم عرضاً كهذا، لكنّ حلولاً كهذه تعكس إشكالية مجتمع كامل، يتعامل مع المرأة جسداً يحمل شرف الرجال، لا كإنسان كامل منفصل، تعرض لانتهاك.
وعلى الرغم من موافقة معتقلاتٍ كثيرات على هذا الحل، بدافع تخفيف العبء عن أهلهن، أو بدافع الاستجابة لفرصة زواج قد لا تتكرر، إلا أنهن، في الغالب، يدخلن في حالات اكتئاب شديدة، وصعوبة حقيقية في استعادة الثقة بالنفس، وبالتالي، استعادة شخصياتهن وحياتهن الطبيعية.
لم يقتصر طرح الحلول المقلوبة على أفراد المجتمعات البسيطة، بل تعداهم، ليصل إلى منظمات أو جمعيات غير رسمية، تُعنى بشؤون المرأة السورية. حيث استأجرت إحدى هذه الجمعيات، والتي رفضت التعامل مع الإعلام بالمطلق، بيتاً في مدينة غازي عينتاب التركية، وأطلقت اسم “بيت المعتقلات” عليه، وهو كبير مجهز لاستقبال المعتقلات الناجيات اللواتي استطعن الخروج من سورية، والوصول إلى تركيا، وتأمين إقامتهن ومصروفهن الشخصي.
قد لا نشكك هنا، أيضاً، بنية القائمين على هذا البيت. لكن، ما لا شك فيه هو أنه حل خاطئ آخر، لم يخضع حتما لرأي مختصين نفسيين، لأنه سيرسخ عزل المعتقلات، بدلا عن دمجهن بالمجتمع، وكأنهن مريضاتٌ، يطبق عليهن حالة الحجر الصحي. حل آخر يعمق الهوة بين المعتقلة والحياة. فإلى متى ستبقى حلول السوريين انفعالية، مقلوبة رأسا على عقب؟

العربي الجديد _ وطن اف ام 

زر الذهاب إلى الأعلى