مقالات

فاطمة ياسين : رفعت الجلسة

تُعقدُ في وقت واحد ثلاث محاكمات مهمّة، لها أشكال متباينة قد يصعب فض الاشتباك بين الأدلة السياسية والجنائية فيها، خصوصاً عندما تُنظَر أمام محاكم استثنائية (دولية، عسكرية، أمن دولة..).

ولأن ممارسة السياسة لا تقتصر دائماً على القفازات البيضاء، فنجدها، اليوم، تُمارس بأقصى أشكال العنف، وتُستخدم فيها أسلحة دمار شامل، ويحشد لها مئات الجنود المدججين بالأسلحة، فسياسة الأحزاب الحالية لا تعترف إلا بحالة النصر، بشكله الكامل الشامل الناجز الذي يتمثل بالوقوف على جثة الخصم المضرجة، طقساً قضائياً يسدل الستار على المشهد، فهنا استبدلت السياسة رداءها الناعم المتخم بأقوى حالات المنطق، المخادع أحياناً، وحولته إلى مجرد عنف متبادل، بشكله الصرف.

محاكمة قتلة رفيق الحريري المفترضين تجري بشكل شبه كاريكاتوري، والمتهمون غائبون “حاضرون”، يسود جو المحكمة جلال العدالة الذي تبدده بين فينة وأخرى خفة دم القضاة والشهود، وكذلك المدّعون العامون، فأصبحت جلسات هذه المحكمة المفتوحة مرافعات سياسية، يمارس فيها الشهود ومحامو الدفاع والادعاء الدعاية للأطراف السياسية المتصارعة. من خلال الحالة الماراثونية للمحاكمات المتقطعة قد تنال هذه الدعوى لقب أطول قضية في التاريخ، والسبب أنها قضية سياسية بامتياز، تستوعب كل المتغيرات التي تعصف، تدريجياً، بالمنطقة، والتي تتداخل، بشكل مؤثر، في مساراتها. من الممكن، أيضاً، ألّا يقفل باب المرافعة في هذه القضية، حتى يتم حل كل الإشكاليات التي نشبت في المنطقة، منذ بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.
القضية التي حسمت هي محاكمة ميشال سماحة، النائب والوزير اللبناني السابق، وقد تم القبض عليه “متلبساً” وبحوزته مواد شديدة الانفجار.

كان يظهر بارداً وهو يسلمها لشخص آخر، ويوجهه إلى زرعها في أي مكان. نال “السياسي” السابق والمجرم الحالي تخفيفاً نزع كل الدسم عن الحكم، فصدر بأربع سنوات ونصف، ويبدو أن النصف جاء إضافةً في محلها، حتى لا يخرج المجرم فوراً من المحكمة إلى قصره، لأن الأربع سنوات كان الوزير قد قضاها مسجوناً في انتظار الحكم. لذلك، عليه أن ينتظر سبعة أشهر، قبل أن يصبح “حراً”. جاءت هذه المحاكمة العسكرية لطيفة، وترافق الحكم، خفيف الظل، بحرمان سماحة من حقوقه المدنية، ما يعني أنه لن يتمكن من أن يعود نائباً أو وزيراً. ليس الأمر فريداً، فهذا حكم قد وقع، بشكل غير مباشر، على كثيرين ممن كانوا، على شاكلة سماحة، أدوات طيعة أو قفازات لينة في يد رستم غزالي، أتاهم الحكم نفسه، على يد النظام السوري. تقول القراءة السياسية للحكم إن الحزب اللبناني الممول إيرانياً، والذي يخوض حرباً شرسة في سورية، مازال قوياً، ولديه أصابع حديدية، تمتد إلى ركن مهم من أركان الحياة اللبنانية، هو القضاء.

القضية الثالثة المتزامنة مع موجة “العدالة”، والتي تلف أروقة السياسة، هي قضية محمد مرسي العياط، فقد حول قاضٍ أوراقه إلى المفتي، وهذه عبارة حقوقية تعني أن الرجل حُكم عليه، عملياً، بالإعدام، ولم يبق إلا تصديق شكلي من الجهات الشرعية. قضى الرجل بعض الوقت رئيساً لمصر، وانتخبه نصف الشعب المصري زائد واحد، ثم ما لبث أن نزل “كل” الشعب المصري إلى الشارع، مطالباً بتخليه عن الحكم. استجاب قائد الجيش، آنذاك، للجماهير، وأَجبر مرسي على التنازل، وجلس مكانه على كرسي الرئاسة، ثم وبحركة هزلية، وضربة شبه قاضية، تحولت أوراق الرجل إلى المفتي.

“العدالة” هي القيمة الاجتماعية التي يجري انتهاكها بتمييع المداولات الحقوقية، انتظاراً لنضوج حل سياسي، أو بأحكام تكاد لخفتها أن تطير، وقد يمكن اعتبارها مكافأة للمجرم، أو تكاد لقسوتها أن تصيب بالصدمة كلَّ من يستمع إليها. في وسط هذا الغليان القانوني، يتصدر وكالات الأنباء خبر مريع يقول “مقتل ثلاثة قضاة في سيناء”، فلعل وكالات الأنباء بحاجة إلى تصحيح خبرها الدموي إلى خبر آخر يقول “الجلسة مازالت مستمرةً”.

العربي الجديد _ وطن اف ام

زر الذهاب إلى الأعلى