مقالات

صبحي حديدي : من الرمادي إلى تدمر: حصاد الرعاية الأمريكية لأنظمة الاستبداد

«قسماً قسماً لنهدمن الساتر ولنردمن الخندق ولنزيلن الأسلاك ولتمسحن الحدود من الخارطة ولتزالن من القلوب»، قال التعليق على الصورة التي وزعتها «داعش»، في مثل هذه الأيام قبل سنة، وفيها يظهر بلدوزر يقوده «أسود الدولة»، يقتحم الحدود العراقية ـ السورية، ويعلن تقويض سايكس ـ بيكو؛ والقول، بالطبع، منسوب إلى «أبو محمد العدناني حفظه الله». 

يومذاك كانت «داعش» قد أحكمت السيطرة على ولاية نينوى العراقية الشمالية، وأزالت الحدود مع محافظة الحسكة السورية («ولاية البركة»، في التسمية الداعشية)؛ ضمن منهجية اجتياح مضطردة مكّنتها من الإطباق، بسرعة مذهلة، على مساحات واسعة من الأراضي العراقية والسورية، وعلى رأسها مدينة الموصل، ثانية مدن العراق.

وأمّا اليوم، بعد سنة من الكرّ والفرّ، وانخراط تحالف أمريكي ـ دولي في القتال ضدّ «داعش»، مؤلف من 25 دولة معلَنة، فضلاً عن جهات أخرى تتولى مهامّ سرّية، عسكرية واستخباراتية ومصرفية؛ واستقدام الجنرال قاسم سليماني، مندوباً عن «الحرس الثوري» الإيراني؛ وتشكيل، أو استنفار، ميليشيات شعبية ذات صبغة شيعية طاغية، عربدت ضدّ جمهور السنّة أكثر مما قاتلت «داعش»… ها أنّ الأخيرة تجتاح مدينة الرمادي، فلا تجد أمامها فلول جيش عراقي مفكك مذعور فارّ من المعركة، فحسب؛ بل تضع، في مهبّ الريح، وعلى ألسن النقد والتهكم، كامل ستراتيجية الرئيس الأمريكي باراك أوباما في محاربة «داعش».
المفارقة، أو الطباق على نحو ما، هو التناغم بين سقوط الرمادي العراقية، ونجاح جحافل «داعش» في اجتياح مدينة تدمر السورية، بعد إلحاق هزيمة نكراء بجيش بشار الأسد هناك.

فإذا صحّ ما قيل عن سلسلة إرباكات اكتنفت ستراتيجية أوباما العسكرية في العراق، ومشكلات عديدة اقترنت بمعارك الجيش العراقي ضدّ «داعش» هناك (التفكك، الفساد، سوء القيادة، انخفاض المعنويات، المذهبية…)؛ وصحّ، في المقابل، ما أثبتته الوقائع من تواطؤ، مباشر أو غير مباشر، بين نظام الأسد وميليشيات البغدادي؛ فما الذي منع أوباما من إصدار أوامر بقصف «داعش» وعرقلة زحفها إلى تدمر؟ وإذا وضعنا جانباً احتمال الأخطار المحدقة بآثار المدينة، الثمينة والفريدة، ألا يدخل قصف «داعش» في صلب النطاق الجغرافي واللوجستي لعمليات التحالف في سوريا، أو في أجوائها على الأقلّ؟ وإذا أُعيد تكرار الأسطوانة إياها، من أنّ أوباما انتُخب لكي يُخرج أمريكا من حروب قديمة لا لكي يدخلها في أخرى جديدة، فأي «حرب» هذه التي كانت ستشعلها عرقلة تقدّم «داعش» إلى موقع ستراتيجي يربط تدمر بالرمادي، خاصة وأنّ تطوراً كهذا كفيل بأن يزيد ستراتيجية أوباما ضعفاً على ضعف؟

خلاصات كثيرة يمكن للمرء أن يستمدها من هذه الواقعة، أو الواقعتَين مترابطتَين متزامنتَين؛ لعلّ أوضحها، حتى إشعار آخر بالطبع، أنّ ما جرى ويجري ليس أقلّ من حصاد، متأخر أو كان مؤجلاً، لسياسات أمريكية عتيقة، تتجاوز خيارات أوباما الراهنة، وتضرب بجذورها في تلك التربة الفاسدة التي استقرّ عليها سادة البيت الأبيض منذ عقود طويلة: رعاية الاستبداد، عن طريق السكوت على قبائحه وجرائمه، أو حتى التواطؤ فيها وعليها، مع أنظمة شمولية مستبدة فاسدة ـ كما أقرّت واشنطن، على الدوام ـ لكنها تضمن «الأستقرار» الداخلي، من جهة أولى؛ وتجعل حدود إسرائيل آمنة هادئة، كما في مثال النظام السوري؛ أو تستنزف طاقات البلد في حروب هستيرية عصابية، كما في مثال العراق أيام صدّام حسين، ثمّ بعد «التحرير» أيضاً، من جهة ثانية.

وفي الخريف الماضي أعلن أوباما تلك «الدرّة» في ستراتيجيته لمواجهة «داعش»: أنّ أمريكا، من موقعها الراهن كقوّة كونية هي الأعظم إطلاقاً، سوف تنتصر على هذه المجموعة الإرهابية، كما انتصرت على سواها من قبل، وعلى غرار نجاح أمريكا في الإجهاز على أسامة بن لادن، وإضعاف أنصاره في أفغانستان والباكستان اليمن والصومال. ذلك لأنّ «أمريكا هي التي تمتلك القدرة والإرادة لتعبئة العالم ضدّ الإرهابيين. وأمريكا هي التي حشدت العالم ضدّ العدوان الروسي، وفي دعم حقّ الشعب الأوكراني في تقرير مصيره بنفسه. وأمريكا ـ بفضل علمائنا، وأطبائنا، وخبرتنا ـ هي التي تستطيع احتواء وعلاج انتشار مرض إيبولا. وأمريكا هي التي ساعدت في إزالة وتدمير أسلحة سوريا الكيماوية المعلنة بحيث لا تشكّل مجدداً مصدر خطر على الشعب السوري والعالم». ومجدداً، لا عجب في أن يظنّ المرء أنه لا يصغي إلى الرئيس الأمريكي الرابع والأربعين، بل إلى الرئيس الأمريكي الأوّل؛ أو بالأحرى، كلّ وأيّ رئيس أمريكي حين ينجرف إلى غنائيات امتداح الولايات المتحدة، خصوصاً في هذا الجانب الأثير تحديداً: قيادة العالم.

ولكن… اقرأوا ما يكتبه أساطين أمريكا، أنفسهم، عن ستراتيجية قائدهم هذا؛ وعن تخبّط هذه الإدارة، والإدارات السابقة جمعاء، في معالجة ملفات العراق، تحديداً؛ وملفات سوريا ولبنان وفلسطين واليمن ومصر، تالياً؛ فضلاً عن ملفات أخرى إقليمية، تخصّ المحاور والأحلاف والاستقطابات، من إسرائيل إلى إيران، ومن تركيا إلى أفغانستان. أو فتشوا عن المخفيّ، المسكوت عنه، في لهاث حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي، إلى موسكو طلباً للنجدة، من خصم واشنطن تحديداً، وليس من أيّ حليف لها. أو استخلصوا العبرة من إصرار أمريكا على استبعاد الجنرال سليماني، قبل أشهر، مقارنة مع وصول وزير الدفاع الإيراني أحمد حسين دهقان إلى بغداد قبل أيام، على رأس وفد رفيع. أو، أفضل من هذا وذاك، عودوا إلى ما صرّح به أوباما في شباط (فبراير) الماضي فقط، من أنّ «داعش» في حالة دفاع عن النفس وانهيار في المعنويات؛ والعكس تماماً، الذي تقوله وقائع اليوم، في الرمادي وتدمر؟

طريف، إلى هذا، أن يعود المرء إلى «حزب البعث العربي الاشتراكي»، الذي حكم في العراق وسوريا؛ فلم يكن اشتراكياً، إلا بمعنى إفقار الشعب، ونهب ثروات البلاد، وتخريب الاقتصاد؛ ولم يكن عربياً إلا بمعنى إشاعة الطائفية والمذهبية وتفكيك الشخصية الوطنية. ولم تكن «مقاومة الرجعية والصهيونية والإمبريالية»، في السلوك الفعلي لقياداته، إلا الخنوع والتبعية والاستسلام، فلم تُقاوَم إلا إرادة الشعبين السوري والعراقي، ولم تُنتهك إلا كرامة المواطن، ولم تُقمع إلا حقوقه وحرياته. بيد أنّ قادة هذا الحزب هم الذين تنعموا بسكوت أو تواطؤ أو رعاية الإدارات الأمريكية المتعاقبة، إذْ يتذكّر المرء لقاءات صدّام حسين مع وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رمسفيلد، قبيل مجازر حلبجة؛ وصفقات حافظ الأسد مع واشنطن، وإسرائيل تالياً، في لبنان، ثمّ الانخراط تحت الراية الأمريكية في «عاصفة الصحراء»…

وهذا حزب أقام الحواجز، ورفع السواتر، وحفر الخنادق، لا لكي يرسّخ على الأرض ما رسمته اتفاقية سايكس ـ بيكو على الخرائط، فحسب؛ بل، أيضاً، لكي يجعل شعاره المقدّس ـ «أمّة عربية واحدة/ ذات رسالة خالدة» ـ مسخرة المساخر، بعد أن بدأ أصلاً جعجعة بلا طحن. وهكذا كان أبو محمد العدناني، الداعشي، ابن بنش السورية، القيادي المتنفذ في الأنبار العراقية، وليس أي بعثي، صغير أو كبير؛ هو الذي أعلن تقويض حدود سايكس ـ بيكو، في واحدة من مفارقات حزب البعث الأدعى إلى الضحك والازدراء في آن. وأمّا الحصاد الأمريكي من عقود احتضان أنظمة الاستبداد والفساد، فلعلّ نتائجه الأشدّ مرارة ما تزال كامنة في قادم أيامٍ حبالى… يلدن، أغلب الظنّ، كلّ عجيب!

المصدر : القدس العربي

 

زر الذهاب إلى الأعلى