بعد مرور نحو ثلاث سنوات على بيان جنيف الذي تم التوصل إليه في مجموعة العمل من أجل سورية، في 30 يونيو/حزيران 2012، يبدو الموقف الروسي على حاله، لجهة اعتبار بشار الأسد رئيساً شرعياً، واعتبار الصراع في سورية حرباً ضد الإرهاب والتطرف.
هذا ظاهرياً، أما واقع الحال فيشير إلى تغير في الموقف الروسي، أقله لجهة القبول بالعودة إلى تفاهمات جنيف التي تنص على تشكيل “هيئة حكم انتقالي”، من النظام والمعارضة “بصلاحيات كاملة” تقود مرحلة انتقالية محدودة المدة، حتى يتم وضع أسس انتقال سورية إلى الحالة الديمقراطية (سن دستور، إجراء انتخابات…إلخ). فالروس بعد أن نجحوا في انتزاع موافقة أميركية في الإبقاء على النظام، بعد التوصل إلى اتفاق نزع سلاحه الكيماوي، وتضمينه في قرار لمجلس الأمن حمل الرقم 2118، بدأوا يسعون باتجاه تحقيق انتصار عسكري للنظام على الأرض، مستفيدين من فترة السماح التي أعطتها اتفاقية نزع السلاح الكيماوي، وحرص الرئيس أوباما على عدم إزعاج طهران في خضم محاولاته التوصل إلى اتفاق معها حول برنامجها النووي. غير أن التطورات الميدانية الأخيرة، والتي تمثلت بتحقيق المعارضة المسلحة اختراقات كبيرة على غير جبهة على امتداد الجغرافيا السورية، دفعت روسيا، على ما يبدو، إلى إعادة النظر بموقفها، والتسليم باستحالة انتصار النظام عسكرياً، وتلاشي قدرته نهائياً على العودة إلى الإمساك بالوضع السوري، كما كان عليه الحال قبل الثورة. هذا الأمر أرغم الكرملين على العودة إلى الحديث عن مركزية بيان جنيف في حل المسألة السورية، بعد أن حاول الالتفاف عليه في لقاءات موسكو التشاورية، بنسختيها الأولى والثانية، مستنداً إلى “الانتصارات” التي كان يحققها النظام على الأرض لمعظم العام 2014.
واستتباعاً، هذا التطور هو ما سمح، على ما يبدو، باستئناف اللقاءات الروسية-الأميركية حول سورية، بعد انقطاعها تماماً، إثر فشل مؤتمر جنيف 2 في فبراير/شباط من العام 2014، واتهام واشنطن موسكو بالمسؤولية عن ذلك، نتيجة امتناع الكرملين عن تنفيذ اتفاق كيري-لافروف، الذي تم التوصل إليه في موسكو في يناير/كانون الثاني 2014، وتعهد فيه كل طرف بالضغط على حلفائه السوريين، لتقديم تنازلات تدفع نحو البدء بتنفيذ المرحلة الانتقالية، كما نص عليها بيان جنيف. فقد التقى، الأسبوع الماضي، في موسكو المبعوث الأميركي إلى سورية، دانيال روبنستين، مع مدير إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الخارجية الروسية، سيرغي فيرشينين، لبحث آخر المستجدات في الشأن السوري، خصوصاً تقدم المعارضة وأثرها في جهود التسوية. ويبدو أن هذا الاجتماع جاء نتيجة مباشرة للزيارة المفاجئة التي قام بها إلى روسيا وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، والتقى خلالها الرئيس بوتين في منتجع سوتشي على البحر الأسود، وكانت سورية وأوكرانيا قضيتي البحث الرئيسيتين فيها.
ولكن، لم يكن الموقف الروسي من المسألة السورية يوماً مرتبطاً فقط بالتطورات الميدانية على الأرض، على أهميتها، بل بعوامل عديدة متداخلة مقدار تداخل مصالح روسيا وتشابكاتها الإقليمية والدولية. فواقع الحال يشير إلى أن الكرملين لم يعد مهتماً كثيراً بمصير قاعدة طرطوس البحرية، على فرض أنه كان مهتماً بها أصلاً، وهي التي ثار جدل كثير حول حقيقة أهميتها بالنسبة لموسكو. مع ذلك، قد تكون القاعدة، التي تعد صغيرة جدّاً لاستيعاب السفن الروسيّة الكبيرة، استأثرت باهتمام الكرملين، عندما هددت أوكرانيا عام 2008 بعدم تجديد العقد الذي يسمح لأسطول البحر الأسود الروسيّ، باستخدام القاعدة البحريّة في سيفاستبول، والذي كان مقرّراً أن تنتهي مدّته عام 2017. أما وقد ضمت روسيا، في العام الماضي، شبه جزيرة القرم، وأصبحت سيفاستبول جزءاً من الأراضي الروسية، وتحول الجزء الأكبر من البحر الأسود إلى بحيرة روسية، لم يعد هناك ما يبرر اعتبار طرطوس ذات قيمة حقيقية بالنسبة إلى موسكو.
من جهة أخرى، يبدو أن سورية التي لا تشكّل حالة مهمّة بذاتها بالنسبة لروسيا إلا بمقدار فائدتها، أداة إشغال وضغط للحصول على مكاسب في قضايا أكثر جوهرية، قد غدت أداة ضغط على روسيا نفسها، لا بل أصبحت تشكل عبئاً كبيراً عليها. فالرئيس بوتين الذي يئن اقتصاد بلاده تحت وطأة عقوبات شديدة فرضتها عليه الدول الغربية، بسبب الأزمة الأوكرانية، يتعرض لضغوط أشد، بفعل سياسة خفض أسعار النفط التي تقودها السعودية ضده، بسبب موقفه في سورية وتحالفه مع إيران. بدأ الرئيس بوتين يستشعر خطورة انتظام خصومه، وتوحدهم ضده، بعد أن فتح معهم، أو فتحوا معه، جبهات تمتد من أوكرانيا إلى سورية، ومن ثم بدأ يعطي إشارات تنم عن استعداده لانتهاج سياسات أكثر مرونة وأقل حدة. وحيث أنه لا يستطيع أن يعطي شيئاً في أوكرانيا، فالأرجح أنه سوف يحاول أن يكون أكثر استعداداً للتفاهم في سورية التي تعد أقل أهمية من الناحية الجيوسياسية بالنسبة إليه، لكنها أكثر أهمية بالنسبة إلى شريكه في “تحالف الممانعة”، وهو في هذه الحالة إيران التي يترتب على الكرملين أن يحاول إقناعها بسلوك مسلك مشابه، عبر دعم الجناح الراغب في حل المسألة السورية داخل دوائر السلطة الإيرانية.
بالنتيجة، يبدو أن سورية استنفدت بالفعل الغرض من استخدامها أداة تعطيل وعرقلة بالنسبة إلى الرئيس بوتين، وربما حان الوقت لاستخدامها “أداة” لتحسين علاقات موسكو الإقليمية والدولية، وبما يفيد في تخفيف الضغوط الاقتصادية عنها. ولإدراك أهمية هذه النقطة بالذات، تكفي الإشارة إلى حجم الخسائر التي تكبدها الاقتصاد الروسي، نتيجة حرب الأسعار التي تخوضها السعودية ضده. ففيما بلغت خسائر الاقتصاد الروسي، جراء العقوبات الغربية بسبب الأزمة الأوكرانية، 40 مليار دولار العام الماضي، تجاوزت خسائره بسبب انخفاض أسعار النفط 110 مليارات دولار في الفترة نفسها، علماً أن العملة الروسية “الروبل” فقدت 33% من قيمتها، بعد قرار “أوبك” في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعدم خفض الإنتاج لرفع الأسعار.
نقطة تلاقٍ مع أميركا
من الواضح أيضاً أن سورية بدأت تتحول لتكون نقطة تلاقٍ روسي-أميركي، بعد أن ظلت نقطة خلاف وتوتر على امتداد السنوات الأربع الماضية، فكل من موسكو وواشنطن يتملكهما “رهاب” وصول تيارات الإسلام السياسي، بنسختها الجهادية خصوصاً، إلى السلطة في سورية. وقد أدى صعود “تنظيم الدولة” وتمدده في سورية والعراق وإعلانه قيام “دولة الخلافة” إثر سقوط الموصل، العام الماضي، إلى تقارب كبير في الرؤية بين واشنطن وموسكو لطبيعة الصراع في المنطقة، وإن غطى على ذلك خلافهما حول أوكرانيا. وقد عبر هذا التقارب عن نفسه باتجاه واشنطن إلى تبني المقاربة الروسية للصراع في سورية وعموم المنطقة بإعطائها الأولوية لمواجهة خطر التنظيمات الجهادية، في مقابل اتجاه روسيا إلى تبني المقاربة الأميركية القائمة، في جوهرها، على تحقيق توازن قوى في المنطقة، عبر استخدام “لعبة” الإسلام “الشيعيّ” الذي تقوده إيران في مواجهة الإسلام “السنّي” الذي تمثّله تركيا والسعودية، وبما يؤدي إلى احتواء القوى الإقليمية الكبرى الثلاث في المنطقة.
ويأمل الكرملين في أن يؤدي هذا التقارب في الرؤى إلى تحقيق “انطلاقة جديدة” في العلاقات مع واشنطن، تعيد الحياة إلى المحاولة التي بدأت مع وصول الرئيس أوباما إلى السلطة، وجرى التعبير عنها في اللقاء الشهير الذي جمع وزيرة الخارجية الأميركيّة السابقة، هيلاري كلينتون، مع نظيرها الروسيّ، سيرغي لافروف، في موسكو عام 2009 عندما أمسك الطرفان “بزرّ كهربائي”، وضغطا عليه سويّة للإعراب عن رغبتهما المتبادلة في تجاوز التوتّر الذي ساد في حقبة الرئيس بوش الابن.
العامل التركي
ويبدو أن التقارب المتزايد بين روسيا وتركيا يدفع، أيضاً، باتجاه تعاون أكبر لحل الأزمة السورية التي ما فتئت تشكل عنصر توتر كامن بين الطرفين، على الرغم من نجاحهما في تحييد آثارها على مصالحهما الاقتصادية المشتركة. وقد أعطت الزيارة التي قام بها الرئيس بوتين إلى أنقرة، في ديسمبر/كانون الأول 2014، دفعة كبيرة للعلاقات المتنامية بين البلدين، في الوقت الذي كانت تشهد فيه علاقاتهما توتراً متزايداً مع الغرب كل لأسبابه. خلال هذه الزيارة، أعلن بوتين عن إلغاء بناء خط غاز السيل الجنوبي (South Stream) لتغذية أوروبا بالغاز عبر البحر الأسود إلى بلغاريا، وتحويل الخط، بدلاً من ذلك، إلى تركيا، وليصبح اسمه “السيل التركي” (Turkish Stream). وإمعاناً في إرضاء شركائه الجدد في أنقرة، وزيادةً في إثارة سخط الأوروبيين، قرر بوتين اعتماد “السيل التركي” ممراً إجبارياً وحيداً للغاز الروسي إلى أوروبا، عبر اليونان وإيطاليا، بمجرد انتهاء مفعول اتفاقية نقل الغاز عبر أوكرانيا عام 2017.
كما أسهم طلب تركيا زيادة كميات الغاز التي يتم ضخها إليها من روسيا بمقدار 3 مليارات متر مكعب سنوياً، مدة لا تقل عن عشرين عاماً، وموافقة أنقرة على قيام شركة غاز بروم ببناء وامتلاك خزانات ضخمة لتخزين النفط وتوزيعه داخل تركيا، في زيادة الاعتماد التركي على موسكو طاقوياً. وقد أدى ذلك إلى تبديد الكثير من مخاوف روسيا التي كانت قائمة، حيال تداعيات سقوط سورية في دائرة النفوذ التركي في حال انهيار النظام، إذ كانت موسكو تعتقد أن هيمنة تركية في سورية سوف تسمح بفتح خطوط الطاقة (الغاز تحديداً) من الخليج إلى أوروبا عبر سورية وتركيا، ما يعني تحولاً استراتيجياً في خارطة الطاقة الإقليمية والعالمية لغير مصلحة روسيا التي لم يبق لها من مظاهر النفوذ والتأثير في العالم، إلا حق الفيتو في مجلس الأمن واحتياطاتها الكبيرة من النفط والغاز. أما وقد تم توقيع اتفاقية “السيل التركي” فقد زال الكثير من مخاوف روسيا من فقدان قدرتها على التحكم طاقوياً بمصير أوروبا، كما جعل جزءاً كبيراً من مصالحها مرتبطاً بتركيا.
أدى فشل الربيع العربي، في مرحلته الراهنة، علماً أن روسيا لعبت دوراً مهماً في إفشاله، وتلاشي المخاوف من صعود النفوذ التركي، الذي ضعف أصلاً بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، وتحول الإقليم من “صفر مشاكل” إلى “مشاكل مع الجميع” بالنسبة إلى تركيا التي غدت معزولة كلياً في إقليمها، لولا الانفتاح السعودي أخيراً عليها، أدى ذلك الفشل إلى تقلص المخاوف الروسية التي كانت قائمة سابقاً حول تداعيات الربيع العربي على مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية الكبرى، وحتى على الداخل الروسي. فمن جهةٍ، كانت موسكو شديدة الارتياب من تأثير صعود تيّارات الإسلام السياسي في العالم العربيّ على أقاليمها الإسلاميّة، وهي التي لم تنس بعد تجاربها في أفغانستان والشّيشان. من جهة أخرى، تزامن انطلاق الربيع العربي مع الاستعدادات التي كانت تجري، على قدمٍ وساق، في موسكو، لإعادة بوتين إلى الكرملين. وقد أدّى الدعم الأميركيّ المادّي والمعنوي للمعارضة الروسيّة التي تعاظم نفوذها مع اتّهاماتٍ غربية لبوتين بالإشراف على تزوير الانتخابات البرلمانيّة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، ثمّ انتقلت لتستهدف عودته إلى الرئاسة عام 2012، إلى اعتقاد روسيّ أنّ واشنطن تسعى إلى نقل رياح التغيير العربيّ إلى موسكو. ذلك كله، فضلاً عن إحساس موسكو بالخديعة مما تزعم أنه استغلال الغرب قرارات مجلس الأمن بخصوص ليبيا (1970و1973) وتحوير هدفها من حماية المدنيّين إلى إطاحة القذّافي، أثار استياءً شديداً لدى بوتين الذي قرر تبني سياسات حيال الأزمة في سورية، هي خليط من القلق والإحباط والغضب والعند والمناكفة.
أما الآن، وبعد النهايات الدموية لأكثر الثورات العربية، وتراجع واشنطن عن الفكرة “المثالية”، التي راودت جناحاً في إدارة الرئيس أوباما، في تأييد التحول الديمقراطي في العالم العربي، وانتقال عدوى الخوف المرضي من صعود تيارات الإسلام السياسي إلى السياسات الأميركية التي قررت النكوص إلى المقاربات الأمنية التقليدية في مواجهتها، يشعر صاحب الكرملين باطمئنان أكبر إلى موقعه ومصالحه. وإذا تمكن بوتين الذي تتمتع سياساته الخارجية الهادفة إلى تأكيد مكانة روسيا الدولية بتأييد كبير في الداخل الروسي، من معالجة الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها بسبب هذه السياسات، فإن موقعه القوي الآن سوف يزداد قوة. هذا يعني أن أكثر الأسباب الداخلية، وتلك ذات الطابع الجيواستراتيجي التي جعلت موسكو تتبنى سياسات معينة في المسألة السورية قد زالت عملياً، ما يستدعي منطقياً حصول تغيير في هذه السياسات، خصوصاً وأن النخب الروسية الحاكمة تتبع منهجاً نفعياً خالصاً ومبتذلاً في الحكم والإدارة، وهي تدرك أنها إذا لم تعمد إلى التوصل إلى حل سياسي الآن في سورية، فإنها سوف تخسر كل استثماراتها التي “غمستها” بالدم السوري، على مدى الأعوام الأربعة الماضية، وذلك في ظل إصرار إقليمي واضح على هزيمة النظام، إذا لم يستجب لمتطلبات الحل السياسي، كما ورد في بيان جنيف.
العربي الجديد _ وطن اف ام