النظام السوري، حزب العمال الكردستاني، جبهة النصرة، تنظيم الدولة الاسلامية، حزب الله لديهم مشترك أيديولوجيّ ، وان كان من نوع ما عاد يؤخذ محمل الجد بتاتاً، بل يجعل الناس تنقلب على ظهرها من الضحك لو ذكر، رغم كل ما يتّصف به الواقع السوريّ، وامتداده اللبنانيّ من مرارة.
هذا المشترك قوامه، ان كلاً من النظام والعمال والجبهة والدولة والحزب، يفرز نوعاً طريفاً من معاداة الإمبريالية الغربية، بصرف النظر عن الاختلاف في المصطلحات، بين «هيمنة استعمارية» و»صليبية» و»استكبار عالميّ» و»شيطان أكبر».
مع هذا، لم يفكّر أحدٌ في عالم اليوم بدعوة هذه القوى المعادية للإمبريالية لحقن الدماء التي تسيل فيما بينها، أو لوقف «الحروب بين الأشقّة»، أو لمصالحة الحركات التحررية الوطنية فيما بينها على قاعدة مرجعية مؤتمر باكو لشعوب الشرق (مثلا!)، أو لانهاء «الحرب الأهلية» داخل الحركة الإسلاميّة الأممية.
كذلك، فان المقولة البلشفية «ملك افغانستان الذي يحارب الاستعمار أقرب الينا من حزب العمال البريطاني»، والتي تهدف الى تكتيل أعداء الامبريالية بصرف النظر عن لونهم الأيديولوجي، وتقدميّتهم أو رجعيتهم، ما عاد يمكنها ان تستنسخ في الحالة الراهنة بشكل واسع، في حين انها استنسخت الى حد كبير بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، يوم كان أنصار «حزب الله» في لبنان يطلقون تسمية «المقاومة العراقية الشريفة» على فلول البعث العفلقي والجهاديين السنّة في العراق، وكان «حزب الدعوة» المتعاون مع الأمريكيين يتّهم «حزب الله» اللبناني بتجهيز مقاتلي «القاعدة».
يومها كان «تكتيل القوى المعادية للإمبريالية» لا يزال يعمل الى حد ما: «فلول صدام ودولة العراق الاسلامية أقرب الينا كحزب الله من حزب الدعوة»، كان يمكنك ان تقرأ بين السطور، وأحياناً جهاراً. فقبل ان تصل منظومة «الممانعة» الى مرحلتها التكتلية المذهبية الصرف بعد الثورة السورية، كانت هذه المنظومة «تتخطى المذهبية» في حالة دعم النظام السوري و»حزب الله» لفصائل جهادية سنّية في عراق 2010-2003 في مقابل لعبة رعائية ايرانية لـ»تفتح مئة وردة» تغلّبية مذهبية شيعية داخل العراق. اليوم لم تعد هذه الثنائية موجودة: «حزب الله» على لسان نائب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم، جعل من تجربة «الحشد الشعبي» العراقي قدوة لفصيله.
بطبيعة الحال، تجد كل واحدة من القوى التي أشرنا اليها في البداية، النظام والعمال والجبهة والدولة الاسلامية والحزب، أن خصمها الميدانيّ متواطئ مع الإمبريالية، وتستجمع ما أوتي من قرائن وشواهد لأجل اظهار ذلك، يبقى ان كل واحدة من هذه القوى اصطدمت حربياً مع الولايات المتحدة الأميركية في وقت من الأوقات. فتحسّن العلاقات الأمريكية السورية بعد انقلاب حافظ الأسد على رفاقه اليسارويين لم يمنع اصطدام نظامه مع المارينز في لبنان عام 1983، وصولاً الى اسقاط المضادات الجوية السورية طائرتين أميركيتين ومقتل أحد الطيارين واحتجاز آخر (بوبي غودمان). و»حزب الله» خدم عسكريته ضد «القوات متعدّدة الجنسيات»، من أمريكيين وفرنسيين، قبل أن يباشر عملياته ضد المحتل الاسرائيلي.
و»جبهة النصرة» فرع من «تنظيم القاعدة» ينشد شبابه «دمّرنا أمريكا بطيارة مدنية»، وخليفة «الدولة» معتقل سابق في غوانتانامو، وتخاض ضد تنظيمه منذ نحو سنة حرب جويّة، أمريكية بالدرجة الأولى. أمّا «حزب العمّال الكردستاني»، الفصيل الأكثر قرباً بين هذه القوى الى المأثور التراثي «القرن عشريني» في معاداة الإمبريالية من موقع حركة تحرر وطني (وليس حركة تحرر من «وثن الوطنية» كما حال «داعش»)، فإنّ تصدّيه لـ»داعش» في الشمال السوري، وتقاطعه مع الأمريكيين على هذا، لا يكفي لوحده لاخراجه من لائحة الارهاب الأمريكية، وكان الرئيس السابق جورج دابليو بوش وسّع العقوبات عليه من باب مكافحة تهريب المخدّرات أيضاً (2008).
واذا كان «حزب الله» شمل نطاق عملياته بلغاريا والأرجنتين، فإنّ أحد أذرع حزب العمال أتهم أيضاً باغتيال رئيس الوزراء السويدي اليساري اولوف بالمه في الثمانينيات، وقد استجوب المحققون السويديون عبد الله اوجلان في سجنه التركي لاحقاً، وأفادوا بأنه يتهم زوجته السابقة كاسرة بحياكة المؤامرة على بالمه.
بطبيعة الحال، يميل العداء للإمبريالية، وتحديداً تلك الأمريكية، عند هذه القوى، للإعتدال الكلاميّ مع الوقت، باستثناء ما يحصل مع تنظيم «الدولة الاسلامية» الذي يواجه حرباً أمريكية مفتوحة عليه.
فالنظام السوري الذي سلّم ترسانته الكيماوية لتفادي الضربة الأمريكية، يسعد كالطفل كلّما التقط اشارة يتأوّلها على أنه، كنظام، «خيرٌ من داعش»، وحزب العمّال مهتم بسحب نفسه من لائحة الإرهاب بعد ثبات جدارته في التصدّي لـ»داعش» في كوباني، و»جبهة النصرة» ولو كانت تسخر «في عبّها»، من المقاربات الهادفة الى «تغيير سلوكيّاتها» والباسها ثوباً متميزاً عن «تنظيم القاعدة»، فإنّها تستثمر عسكرياً وسياسياً «تمايزها ضمن خط القاعدة». أمّا «حزب الله» فأمينه العام يضع قواعده في أجواء حرب وجودية مفتوحة: فإما «التعبئة العامة» وإما «السبي والمذلّة»، لكنها حرب مع أعداء الإمبريالية الآخرين، «داعش والنصرة»، وليست مع الإمبريالية. والحزب، الذي استعاد، بزخرفة مهدوية ايرانية، الهجائية الثورية ضد «الرجعية» العربية، وبالتزامن مع الحرب الخليجية – الحوثية، لم يعد يكثر قادته من هتاف «الموت لأمريكا»، الذي لا يزال على الموضة في معشر الحوثيين.
في وضع كهذا، ستأتي الدعوة الى حقن الدماء بين جميع «المعادين للإمبريالية» الذين تصادموا معها في يوم من الأيام، وما زالوا يمتلكون مفاتيح أيديولوجية مناهضة لها في خطابهم، سواء جرى تفعيلها تعبوياً أو لا، دعوة كاريكاتورية خالصة. لكن هذا الكاريكاتور هو أيضاً الواقع. ذلك أنّ العداء للإمبريالية ليس فقط مجرّد «عدّة نصب» عند كل من هذه القوى وقادتها.
بشّار الأسد وعبد الله اوجلان وابو محمد الجولاني وابو بكر البغدادي وحسن نصر الله مقتنعون فعلاً بأنّهم تصدّوا ويتصدّون للإمبريالية، وأنّهم حين يتقاطعون – في لحظة ما – معها، فلأن خصمهم المباشر يريد أن يستقوي بها عليهم أكثر. هذا ليس رياء صرفاً في حال المذكورين، بل هو «صدق كارثي». إنّها قناعات راسخة عندهم.
قناعات تجعل من أنماط «معاداة الإمبريالية» التي يزاولونها عنصراً حيوياً لتغذية أنماط الاحتراب الدموي القائمة فيما بينهم، وبالنتيجة، من التضافر – مع تفاوت نوعي في المسؤوليات والأدوار، في تقوية شوكة الإمبريالية نفسها.
القدس العربي _ وطن اف ام