على خلاف معظم الدول العربية، لم تتحدد السياسة المصرية تجاه سوريا بتطورات الأزمة فيها، بل كانت الأوضاع الداخلية في مصر وتغيرات الحكم التي شهدتها البلاد خلال السنوات الأربع الماضية هي الفيصل في تشكيل الموقف السياسي من الأزمة السورية.
وهكذا تشكلت في مصر ثلاثة مواقف سياسية متباينة من الأزمة السورية تبعا لثلاث مراحل سياسية مختلفة شهدتها البلاد منذ اندلاع ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وحتى الآن.
المجلس العسكري
عندما اندلعت الثورة السورية فعليا في 18 مارس/آذار 2011، كانت مصر في خضم أحداث ثورتها الكبرى التي انتهت مرحلتها الأولى بتنحي مبارك عن السلطة في 11 فبراير/شباط 2011 لتتسلم المؤسسة العسكرية تحت قيادة المشير محمد حسين طنطاوي حكم البلاد ريثما تجري الانتخابات.
في هذه المرحلة، لم تكن قضايا الخارج تُولى اهتماما كافيا لدى القاهرة إلا كتعبير عن حضور مصري في المنظومة العربية، وهكذا كانت المواقف المصرية من الأزمة السورية مواقف عامة (الدعوة إلى حل سياسي للأزمة السورية يحافظ على تطلعات الشعب، مع الرفض المطلق لأي عمل عسكري خارجي)، وتندرج ضمن فعاليات الجامعة العربية، حيث أيدت القاهرة دعوة الأمانة العامة بداية أغسطس/آب 2011 النظام السوري إلى البدء بمرحلة الإصلاحات السياسية وإيقاف القتل للحيلولة دون تدويل الأزمة.
وفي الشهر التالي منتصف سبتمبر/أيلول، قبلت القاهرة المبادرة العربية الأولى التي دعت إلى سحب الجيش من المدن ووقف العنف وإجراء حوار مع المعارضة، ثم جاء قرار الجامعة في 12 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه ليقضي بتعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، وسحب السفراء العرب من دمشق، وهو الموقف الذي اكتفت مصر بالاعتراض عليه، بينما قبلت بعد أربعة أيام قرار الجامعة إرسال بعثة مراقبين عربية من أجل تقصي الحقائق، ثم قبولها اقتراح الجامعة العربية مبادرة ثانية للحل في سوريا في يناير/كانون الثاني 2012 تدعو إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتفويض الرئيس بشار الأسد صلاحياته الكاملة لنائبه فاروق الشرع.
لم تكن القاهرة لاعبا رئيسيا في صياغة قرارات الجامعة العربية وتوجهاتها آنذاك نتيجة أوضاعها الداخلية التي أثرت سلبا على أداء وزارة الخارجية، حيث كانت قيادة المنظومة العربية في ما يتعلق بسوريا محصورة بين الرياض والدوحة.
الإخوان المسلمون ومرسي
لم يدخل المجلس العسكري في تفاصيل الأزمة السورية ومسبباتها، بل اكتفى بعنوان عريض (ضرورة حل الأزمة بالسبل السياسية لا العسكرية)، لكن في المرحلة الثانية التي بدأت مع وصول الإخوان المسلمين إلى مجلسي الشعب والشورى في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، حدث تغير ملحوظ في التعاطي مع الملف السوري لا بسبب تطورات الأحداث في الشام فحسب، بل وهذا هو الأهم بسبب رؤية الإخوان أنفسهم لمسببات الأزمة السورية.
ومع محافظتهم على الخطوط العريضة لحل الأزمة السورية التي أقرها المجلس العسكري، حمل الإخوان النظام السوري مسؤولية انحراف الثورة من السلمية إلى العنف بسبب خياره الأمني، وأصبح الخطاب السياسي للقاهرة حول حل الأزمة السورية مرتبطا بتحقيق مطالب الشعب في إسقاط النظام الشمولي وإقامة نظام ديمقراطي.
ترتب على هذا الموقف السياسي خطوات عملية بدأت في السابع من فبراير/شباط 2012 بقرار مجلس الشعب المصري تجميد العلاقات مع مجلس الشعب السوري، ثم عقدت لجنة العلاقات العربية في المجلس لقاء مع ممثلي فصائل المعارضة السورية في الشهر ذاته.
لم تكتف القاهرة بذلك، بل خطت خطوة أخرى تمثلت في استدعاء سفيرها من دمشق في 19 فبراير/شباط وإبقائه في مصر، وبرر المتحدث باسم الخارجية المصرية هذا القرار بأنه استجابة لمطالب الشعب المصري بعد استنفاد كافة الطرق والوسائل مع النظام السوري.
وفي بداية مارس/آذار، أعلن رئيس مجلس الشعب سعد الكتاتني خلال كلمة له أمام مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي في الكويت أن مجلس الشعب يجري تنسيقا مع ممثلي الثورة السورية، وطرح مبادرة لحل الأزمة السورية في خطوة تعكس النشاط الدبلوماسي المصري حيال الأزمة السورية، تتضمن المبادرة ستة نقاط:
ـ ضرورة إعطاء أولوية مطلقة للوقف الفوري للعنف.
ـ ضرورة طرح حل للأزمة.
ـ فتح حوار سياسي جاد.
ـ تقديم الدعم للشعب السوري.
ـ توحيد فصائل المعارضة.
ـ رعاية الشعب السوري خارج أرضه.
ومع كل خطوة يخطوها الإخوان بعيدا عن النظام السوري، كانت خطوات أخرى تقربهم من المعارضة، تمثل ذلك في حضور مصري لمؤتمري أصدقاء سوريا في تونس وإسطنبول، وسط دعوات مصرية لضرورة توحيد المعارضة السورية.
في 23 مايو/أيار 2012، انتخب محمد مرسي رئيسا للبلاد، وأصبحت الرئاسة هي المرجع الرئيسي للسياسة الخارجية مع اكتمال النصاب القانوني للنظام السياسي.
شهدت السياسة المصرية تجاه الأزمة السورية مع مرسي تذبذبا واضحا في المرحلة الأولى: رفع مرسي مستوى الخطاب السياسي عبر وصفه النظام السوري بالدكتاتوري، ومسألة إسقاطه واجب أخلاقي قبل أن تكون واجبا سياسيا، في المقابل شهدت العلاقات المصرية-الإيرانية تقدما ملحوظا تُوج بزيارة أحمدي نجاد القاهرة بداية فبراير/شباط 2013 واعتبار مصر إيران جزءا من الحل في سوريا، وإصرارها أن تكون ضمن مجموعة الرباعية لحل الأزمة السورية، في وقت وجه فيه مرسي مدحا للسياسة الروسية حيال تعاطيها مع الأزمة السورية.
أثارت هذه السياسة تساؤلات كثيرة ليس فقط في الأوساط المصرية، بل في الأوساط السياسية السورية بشقيها الحكومي والمعارض، وفي حين اكتفت دمشق بالتزام الصمت حيال التقارب المصري الإيراني استمرت في مهاجمة الإخوان لتقاربهم مع المعارضة التي وجهت من جانبها نقدا قويا للسلوك والتصريحات المصرية حيال إيران وروسيا.
غير أن دبلوماسية الإخوان هذه لم تعمر كثيرا، فكان الـ15 من يونيو/حزيران 2013 موعدا لإعلان مرسي قطع العلاقات نهائيا مع دمشق وسحب القائم بالأعمال المصري وإغلاق السفارة، ومطالبته مجلس الأمن بفرض منطقة حظر جوي فوق سوريا، وبذلك تكون القاهرة قد وضعت في الصف السعودي القطري التركي.
شكلت مرحلة حكم الإخوان المسلمين دعما واضحا للمعارضة السورية، وكانت القاهرة ملاذا آمنا ليس فقط لشخصيات المعارضة، بل لكثير من السوريين الذين وجدوا في مصر أكثر الأماكن راحة بسبب التسهيلات الممنوحة للسوريين من جهة، ولتقارب البيئتين المصرية والسورية في مستوى المعيشة من جهة ثانية.
مرحلة السيسي
مع الانقلاب الذي قام به وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي في الثالث من يوليو/تموز 2013 على الإخوان المسلمين، وإطاحته بأول رئيس منتخب بعد الثورة، انتهت مرحلة الدعم المصري للمعارضة السورية، وبدأت مرحلة دعم النظام بشكل غير مباشرة تحت عنوان ظاهري هو المصلحة القومية العليا لمصر، وآخر مضمر هو العداء للإخوان المسلمين.
لم يكن السيسي قادرا على إعلان دعمه دمشق بشكل صريح بسبب مسؤولية النظام المباشرة عن الأزمة السورية من جهة، ولأن موقفا صريحا كهذا سيبدو خارج المألوف عربيا ودوليا ثانيا، ولتحاشيه إغضاب دول الخليج التي يحتاج إلى دعمها المالي من جهة ثالثة خصوصا السعودية والإمارات، لذلك اتبع السيسي تكتيكا معاكسا تمثل في تطويق المعارضة السورية الراديكالية بما فيها الإخوان المسلمين خدمة للنظام، وبدأت عملية خنق واضحة للمعارضة التي لم تجد بدا من ترك البلاد.
وقد ظهر الموقف المصري واضحا من الائتلاف الوطني عندما لم يوجه دعوة له لحضور أعمال القمة العربية واجتماعي القاهرة الأول والثاني في محاولة لتعويم هيئة التنسيق الوطنية في مواجهة الائتلاف، وهذا ما عبر عنه السيسي صراحة حين أكد ضرورة دعم معارضة معتدلة.
في مقابل تطويق مصري للمعارضة الراديكالية، جرى انفتاح نحو النظام تمثل في استقبال القاهرة وفدا سوريا رسميا في 17 ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي برئاسة عماد الأسد رئيس الأكاديمية البحرية في اللاذقية، في خطوة تحمل من الدلالات السياسية ما يكفي، رغم وصف إعلام القاهرة لها بأنها زيارة روتينية.
بدأ التكتيك الثاني للسيسي باختزال أزمات العالم العربي عامة وسوريا خاصة في الإرهاب والإخوان المسلمين، وبدأ يدعو إلى حل سياسي في سوريا يبدأ بمكافحة الإرهاب وهي الرؤية التي يتبناها النظام وحلفاؤه في إيران وروسيا.
ثم خطى خطوة أخرى في تعميم رؤية النظام السوري للحل السياسي، فأعلن في العشرين من يناير/كانون الثاني الماضي خلال مقابلة أجرتها معه صحيفة الاتحاد الإماراتية أن الرئيس السوري بشار الأسد سيكون جزءا من عملية التفاوض في حال إجراء حوار بين النظام والمعارضة.
وبهذا الموقف الأخير يكون السيسي قد عبر صراحة عن مواقفه السياسية المتماهية مع الموقف الروسي، ووقف على مسافة من حلفائه الخليجيين الذين يعتبرون الأسد جزءا من المشكلة لا جزءا من الحل، ليتشكل بذلك حلف يمتد من القاهرة إلى موسكو مرورا بطهران وبغداد، مقابل الحلف المضاد الذي يضم أنقرة والدوحة والرياض التي تربطها علاقات خاصة مع القاهرة.
وقد شكلت فكرة إنشاء قوة عربية-تركية برية مشتركة في شمالي سوريا نقطة خلاف جوهرية بين أنقرة التي تربط مشاركتها بتوسيع العملية العسكرية لتشمل مناطق يسيطر عليها النظام السوري، والقاهرة التي تطالب باقتصار العملية على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
بيد أن تغير الموقف المصري لم يقتصر على جوانبه السياسية والعسكرية فحسب، بل امتد ليشمل الوضع الاجتماعي للسوريين المقيمين في مصر، وكان أول قرار اتخذه السيسي في هذا السياق منع دخول السوريين إلى البلاد نهائيا والحد من تحركاتهم في مصر، الأمر الذي ترتبت عليه نتائج اجتماعية سلبية على الكثيرين، خصوصا الذين لم يعد بمقدورهم لقاء عائلاتهم، وحال دون إمكانية لجوء عدد من السوريين إلى مصر.
المصدر : الجزيرة