ضجّت وسائل الإعلام والمنابر الدولية بأخبار سيطرة داعش على تدمر، بعد سيطرته على مدينة الرمادي عاصمة الأنبار، وبذلك، أصبح داعش يسيطر على نحو نصف مساحة كل من سورية والعراق، وتتوحد دولته فيهما بعد سيطرته على معبري التنف والوليد على الحدود الدولية لهما، كما يصبح على مبعدة أقل من 100 كم من بغداد و250 كم من دمشق.
اللافت في تلك الضجة بخاصة، أنها قامت من أجل مكانة تدمر التاريخية والرمزية، وحذرا من أن يصيبها ما أصاب متاحف الموصل وتراث العراق من تدمير على أيدي داعش، وكأن الحجر أصبح أكثر أهمية من البشر الذين تراجع الاهتمام بموتهم، وإبادة مئات منهم يوميا في البلدين.
لكن كل ذلك الضجيج، الذي لن يلبث أن يهدأ، لن يغطي على واقع أن داعش يتابع تحقيق اندفاعة، تملك من الدينامية وإمكانات التمدد، ما يجعله يتفوق على ما حوله من جيوش بقايا الدول العربية الفاشلة. وهنا، تبدو أكثر صحة وانطباقا القاعدة الشهيرة، إن قوة طرف في صراع ما كامنة في ضعف خصمه، ذلك أن قوة داعش وتفوقه صارت شبه أسطورية، ليس فقط بفعل الصورة الدعائية المروِّجة لوحشية مقاتليه، أو لانضباطيتهم الصارمة، أو لدافعيتهم المؤمنة بالذهاب إلى الجنة، والتمتع بحورياتها وأنهار عسلها، بل أساسا بسبب ضعف خصمه المتمثل في جيشي العراق وسورية، أكثر من أن يكون ناتجاً عن أي عامل آخر!
فلم يكن سقوط الموصل خلال ساعات، قبل نحو العام، إلا أكبر مثال على ذلك، حين انضم معظم جنود الجيش العراقي المدافع إلى صفوف داعش المهاجم، وخلع بعض ضباطه ملابسهم العسكرية، وسارعوا إلى الهرب بملابسهم المدنية. لكن، إذا كان العامل التمييزي لعب دوراً في ذلك، بفعل سياسة المالكي وحلفائه الإيرانيين، فإن أوامر الانسحاب السوري وتخليه السريع عن الدفاع عن تدمر، لا تكفي لتفسيرها سياسة النظام التمييزية، وافتقاده الحاضنة الشعبية، وهو أمر حاصل في معظم مناطق سورية، لكنه لم يمنعه من الاستماتة في الدفاع عن موقع صغير، مثل مشفى جسر الشغور، أكثر من شهر، أو للاستنجاد بحليفه حزب الله وكتائب قاسم سليماني في القصير والقلمون.
“نحن أمام عملية انسحاب مستثمرة هي الأخرى، إن لم تكن مقررة ومدروسة بعناية بالغ”
وإذا كان مسلماً به أن خفايا الحروب وأسرارها ستبقى طي الكتمان طويلا، خصوصاً في ظل نظام أمني مثل النظام السوري، طالما لعبت الانتحارات والمؤامرات أدواراً مشهودة فيه. فمن الواضح حتى تاريخه أنه لم تحصل معركة جدية في تدمر، وأن الجنود السوريين سرعان ما تلقوا أوامر شفهية بالانسحاب، كما أن النظام لم يستخدم طيرانه، ليمنع تقدم داعش نحو تدمر، أو ليقطع إمداداته، وكل ما حوله بادية مكشوفة، كما هو معروف، وهو الذي لم يكف عن قصف مدن سورية وقراها. هذا إذا تجنبنا الحديث عن سكوت طائرات التحالف الدولي التي يبدو أنها تسرح وتمرح في سماء العراق وسورية، وتقوم بعمليات نوعية، كما حدث في عملية قتل أبو سياف وخطف زوجته، لكنها لم تهتم إطلاقا بتمدد داعش إلى تدمر.
وفي هذا السياق، لن يكون غريباً وقوع سرقات لآثار تدمرية مهمة، خلال حادثة الانسحاب، على جري عادة الفساد السوري المرتبط بأعلى مستويات السلطة، وذلك مع إعلان مدير الآثار السورية عن نقل محتويات المتحف، في وقت تحدثت فيه مصادر أخرى عن نقل السجناء السياسيين، وعن عدم السماح للمدنيين بالهرب، إلا فيما ندر، وتمكّن بعضهم من دفع المعلوم، وذلك كله لا يشير إلا إلى عملية انسحاب مستثمرة هي الأخرى، إن لم تكن مقررة ومدروسة بعناية بالغة.
في هذا السياق، يمكن استيضاح ما جرى في تدمر، وهو الموقع الذي يزوره عشرات ألوف السياح سنويا، وجرى تصنيفه واحداً من أهم مواقع التراث الإنساني العالمي. ليأتي انسحاب جيش النظام منه فرصة إعلامية كبرى، لكي يظهر النظام ضحية للإرهاب مجدداً، فيلتف العالم حوله بصفته النظام العلماني الذي يتلقى ضربات الوحش الداعشي المهدد للذاكرة الحضارية والتراث الإنساني العالمي.
وفي الحقيقة، لم يكن ذلك هو الانسحاب الأول من نوعه للنظام أمام قوى سلفية وجهادية في سورية، فقد سبق ذلك انسحابه من الرقة، وتسليمها للنصرة ثم لداعش بدوره، لكن ذلك لم يوفر للنظام ما هو في مستوى فرصة تدمر، وهي هنا الأكثر نجاعة ودوياً دولياً. لكنها، مرة أخرى، هي الفرصة التي تكشف سياسته المستمرة منذ بداية الثورة، والتي تحقق إثارة الذعر في الغرب حول الأخطار التي يمثلها سقوطه، وتلتقي مع محاولة أطراف دولية معينة تعمل على إعادة تأهيله. وهو الذي ما فتئ يسعى دوماً إلى الظهور بمظهر الحصن الوحيد في مواجهة الجهاديين! بينما هو في الواقع، حصن فقط ضد التغيير السلمي الديمقراطي الذي ما زال سوريون كثيرون يعملون ويضحّون من أجله، على الرغم من كل استقطاب ظاهر بين شريّ داعش والنظام.
العربي الجديد _ وطن اف ام