الإرباك والقلق يسود المجتمع السعودي. ثمّة خوفٌ من انتحاريي داعشي، لم يجدوا ما يقدمونه للأمة سوى تفجير المساجد، ونحر رجال الأمن.
إرباك في التعامل مع السعوديين الشيعة في ظل صراع محتدم مع الجار الإيراني الذي يظهر في الإعلام العربي، تارة، ممثلاً للشيعة العرب، وتارة أخرى نظاماً “فارسياً” يسعى إلى الهيمنة على المنطقة، وقلق على ضياع الأمن أو تدهوره، ولو مؤقتاً في الفترة المقبلة، في ظل تزايد الإضطرابات الأمنية من حدود شمال المملكة وجنوبها.
هكذا يبدو المشهد السعودي، في الأيام التي تلت التفجيرات الإرهابية التي نفذها داعش داخل المملكة، في كل من القطيف والدمام، فعلى الرغم من التعاطف الكبير الذي حظي به الشيعة من أطياف اجتماعية متنوعة بعد التفجيرات، والدور الكبير الذي مارسته الحكومة، بحضورها المكثّف مع عوائل الشهداء، ووجودها الأمني في المنطقة، برفقة اللجان الأهلية التي أنيط بها عمل تفتيش الناس قبل دخولهم المساجد، فإن القلق والخوف لم يتبدّد، لأن الخطوات الأمنية الداخلية، وإن كانت مهمة في هذه المرحلة، فهي لم تُزل خطر التنظيم الإرهابي الأخطر في المنطقة، وذلك بفعل استمرار الحرب الأهلية في الهلال الخصيب، والتي تشكل ذخيرة أساسية في الصراع السياسي المكسو بجلباب طائفي. إذن، داعش باقٍ، وقد يتمدد في دول جديدة، ما دامت الأوضاع في المشرق العربي تراوح مكانها، وكذلك الطائفية، ستظل سكيناً تهدد بنحر بقية دول المنطقة، بلا استثناء، ما دام الصراع على السلطة معنوناً مذهبياً، بفضل الضخ الإعلامي، والمليشيات المذهبية التي تمارس أقصى درجات الجنون والانتقام، فقد بات كل فصيل يتباهى ببث جرائمه على الشاشات التي يتابعها كل بيت عربي.
بالنسبة للسعوديين الشيعة، تجلى الاحتقان الطائفي، والغضب من التفجيرات، في المطالبة بوقف التحريض المذهبي في الإعلام الرسمي، والمساجد، ومواقع التواصل الاجتماعي، وبضرورة تنقيح مناهج التعليم من الإساءة للمذهب، وأن يُسن قانون يُجرّم الطائفية، كما جاء في بيانات رسمية تُليت في أثناء تشييع الشهداء، وكذلك في لقاءاتٍ جرت بين المسؤولين الرسميين والأهالي.
الآن، بغض النظر عما إذا كانت هذه الأمور تُعد مساهمة مباشرة في إنتاج الانتحاريين، فلكي نتثبت أكثر من هذا الادعاء، نحن بحاجة لدراسات خاصة، لكن الأهم في هذه اللحظة، هو انعكاسها على الحالة الاجتماعية، حيث إن الناس هكذا تعتقد بها، وعلى هذا الأساس، تبني موقفها من جدية الدولة في التعامل مع المسألة الطائفية، ومحاربة ظاهرة الإرهاب التي تودي بحياتهم، حيث جرى تحميل الأدبيات السلفية المتطرفة المسؤولية عن تفريخ الإرهابيين، ولأن الناس لا تميز بين السلفيات الموجودة في السعودية، ولا تفرّعاتها، بسبب الصورة النمطية التي يشكلها الخطاب الديني عند عامة الناس، فقد ذاب الفارق الكبير بين السلفية الجهادية المعادية لحكومة المملكة، والسلفية الموالية لها في عيون الناس، كما أن هذه العمليات تضرّ بالسلفية، ولا تضيف لها، فهي تضع السلفية في مأزق حقيقي مع الدولة الراعية؛ لأنها تظهر كمشاركة في تقويض دعائم الدولة، وإحراجها أمام الجمهور العربي والإسلامي، من خلال ادعاء داعش تبني الدعوة الوهابية التي ساهمت في تأسيس الدولة السعودية.
لكن دعاية داعش التي نجحت في استقطاب مجاميع شبابية من داخل المملكة، وزجهم في مناطق الصراع، وهي في الأصل متأثرة بالانتكاسة التي تعيشها الأمة العربية، وبخطاب السلفية الجهادية التي ازدهرت بعد فتح الجهاد في افغانستان على مصراعيه، لم تُفلح في إقناع السعوديين، أو الأغلبية منهم على الأقل، بأن هذا النموذج في تدبير شؤون الناس، والمطبق حالياً في الرقة، والحسكة، ودير الزور، كما يبثهُ داعش في تسجيلاته، صالح للاستنساخ في المملكة، فالمقاومة الرئيسية لداعش في السعودية لن تكون من الشيعة، فهم ليسوا مستهدفين، إلا كورقة ضغط على الحكومة، من خلال تصويرها في موقع العاجز عن حماية مواطنيها، أو في اللعب على استدراجهم لردات فعل انتقامية، قد تقود إلى حرب أهلية، لا سمح الله، وإلا فإن المستهدف الأول من هذه العمليات، هو تفكيك النسيج الاجتماعي، تمهيداً لهدم الدولة، ثم إعادة تشكيل المجتمع السعودي وفقاً للرؤية الداعشية للكون والبشر.
بعد ثلاث عمليات نفذها داعش، في مساجد شيعة المملكة، لا يبدو أن هذه الاستراتيجية يمكن لها أن تنجح في المدى المنظور، ليس لأن أحداً من المتضررين لم يفكر بالانتقام، وبالتالي، تم إبطال مفاعيل أي اشتباك أهلي. كان التنظيم ينتظر وقوعه بين السعوديين، بل لأن الجميع بدا مستوعباً للدرسين، العراقي والسوري، وحريصاً على وحدة البلاد، وسلامة مواطنيها، بغض النظر عن الموقف من الاقتتال الطائفي القائم في مناطق النزاع، ويأخذ هذا الادعاء وجاهته، من خلال ردات الفعل الشعبية والرسمية المستنكرة للجريمة، والمتعاطفة مع الضحايا الذين تمسكوا بعروة الدولة، على الرغم من أن الخطر على حياتهم ما زال قائماً.
تحتاج مواجهة داعش للعمل على مسارين منفصلين، يتعلق أحدهما بالتفكير في استراتيجية جديدة للأمن القومي العربي، تعالج تداعيات انهيار الدولة القطرية في المشرق العربي، وتحدي إعادة بنائها على أسس مدنية لا طائفية. ويتمثل التحدي الثاني في تعزيز قيمة المواطنة، والحد من انخراط الشباب السعوديين في التنظيمات الجهادية حول العالم، من خلال إعادة هندسة الحالة الدينية، ورسم حدودها في منظومة الدولة السعودية.
العربي الجديد _ وطن اف ام