ربما كان طارق عزيز الوحيد من بين مسؤولي النظام العراقي السابق الذي كان يجرؤ على مناقشة صدام، أو الاعتراض على قراراته، أو طرح مقترح يعرف مسبقاً أنه قد لا يرضي الرئيس، أما الآخرون فقد كانوا يبصمون بإبهاماتهم على كل ما يقوله صدام، ويصفقون لكل خطوة يتخذها، حتى وإن كانوا يعرفون، في قرارة أنفسهم، خطأها، إلى درجة أن بعضهم كان يعترف، في مجالسه الخاصة، بأنه لم يستطع أن يقول رأيه خوفاً أو تملقاً!
ضعف هذا النفر من المسؤولين كان واحداً من الأسباب التي أوجدت لدى صدام نزعة التفرد والاستبداد في الرأي التي قادته، لاحقاً، إلى انتهاج مسلك دكتاتوري صارم، وكان طارق عزيز، نفسه، قد أفصح في مقابلة تلفزيونية أن المحيطين بصدام لم يكونوا في مستوى المسؤولية، “كانوا غير مثقفين وضعفاء”، ولا يجرؤون على طرح رأي مخالف، وقد ساهموا في دفع العراق إلى الهاوية، أعطى مثلاً أقرب شخصيتين إلى صدام: عزت الدوري وطه الجزراوي. كذلك رأى عزيز في عائلة صدام “سرطاناً داخل النظام”، لكنه نأى بنفسه، ولم يناقش هذه المسألة.
هي مشكلة معظم حكام العالم الثالث، وحتى معظم قادة الحركات والأحزاب فيه، المحيطين بهم يجدون أنفسهم صغارا أمامهم، ولذلك، يسعون إلى إرضائهم بمختلف الوسائل، ويخشون من إغضابهم، أحيانا هم يريدون من “القائد” أن يكون مشجباً، يعلقون عليه أخطاءهم وخطاياهم.
طارق عزيز، وفي مرحلة لاحقة، سوف ينظر إلى مفهوم “القائد الضرورة”، وهو في ذلك لم يكن يجامل “رفيق نضاله” أو يتملقه، إنما كان يعبر عن قناعة بأن العراق، بتركيبته السكانية، وبتنوع أطيافه، وكذلك بموقعه الجغرافي وسط محيط هائج، يحتاج إلى نمط من القادة “التاريخيين” الذين يتمكنون من ترويضه وإدارته بمركزية صارمة، لوضعه على طريق التحديث والعصرنة، وقد وضع ثقته الكاملة في صدام الذي كان يرى فيه الوصف الذي أعطاه أندريه مالرو لديغول “القائد الشاسع”، وهو المعجب بديغول وبفرنسا.
ظل عزيز يرى في صدام مشروع “قائد شاسع”، ولذلك، لم يجد غضاضة في أن يتجاهل الأخطاء (هو يسميها أخطاءً وليس أكثر من ذلك)، كما لم يسجل معارضته للانقلاب الذي قاده صدام على سلطة الحزب في يوليو/تموز 1979، و”مذبحة الرفاق” التي أعقبت ذلك، على الرغم من أنه كان قد اعترض، في مرحلة سابقة، على انقلاب حافظ الأسد في سورية على “القيادة الشرعية”، وتعرض للاعتقال جراء ذلك.
كان عزيز الوحيد من بين أعضاء قيادة الحزب الذي كان يحرص صدام على سماع رأيه باهتمام، لكن صدام غالباً ما كان يتخذ القرار الذي يريده. قبل الحرب مع إيران، كان عزيز ميالاً لحل سياسي، وتسوية المشكلات مع إيران سلميا، مع إدراكه أن إيران تريد العراق تحت سيطرتها، وإذا كان لابد من الحل العسكري، فإن ضربة عسكرية محدودة تكفي!
في قضية الكويت، وفي اجتماع منتصف يوليو/تموز 1990، عارض عزيز فكرة الغزو، قال لصدام “إن احتلال الكويت سيؤدي إلى حرب مع أميركا، وأنه غير قادر على مواجهتها عسكرياً، وسوف يحترق”، لكن أعضاء القيادة الآخرين حرّضوا على الاحتلال، عزة الدوري وحده ظل صامتاً ولم يعط رأيا، وصدام اتخذ قراره “تحت وطأة ظرف نفسي حاد كان يمر به”، وهو قرار لم يقتنع به عزيز، لكنه كوزير مسؤول، عليه أن يلتزم بقرارات حكومته، وفي اجتماعه مع جيمس بيكر رفض تسلم رسالة بوش إلى صدام حسين، لأنه رأى فيها إهانة لبلده، اتخذ هذا القرار بنفسه، وعلى مسؤوليته.
النصيحة الأخيرة التي قدمها عزيز لصدام كانت قبل الغزو بأشهر: “الأميركيون قادمون هذه المرة لغزو العراق، ولن يخرجوا إلا بعد إسقاط نظامه السياسي”، صمّ صدام أذنيه عن هذه النصيحة، وسمع أصوات آخرين في أنهم قادرون على مواجهة الغزو وإفشاله، المفارقة أن من تحدث عن القدرة على المواجهة كان أول من يفكر بالهرب إلى الخارج، بعضهم حملته طائرات خاصة، تحت سمع الأميركيين وبصرهم، واستقروا في عواصم أمنت لهم العيش الرغيد، أما طارق عزيز فقد ارتكب القرار الخطأ، سلم نفسه إلى الأميركيين، وتوقع أن يعاملوه أسير حرب، لكنهم غدروا به، وسلموه إلى خصومه الذين حكموا عليه بالإعدام عن جرائم لم يقترفها، وأودعوه السجن حتى قضى نحبه.
إلى النهاية، ظل عزيز مخلصا لحزبه ولقائده، ولعله “البعثي” الأخير في سلسلة “الأوائل” الذين يمتلكون صفاء الفكرة، ووضوح النظرة، والإصرار على العمل في سبيل عقيدته، وبرحيله انطوت صفحة “البعث”، كإحدى واجهات “المشروع القومي”، بما حققته من إنجازات، وما حملته من قصور، وما خلفته من مرارات.
العربي الجديد _ وطن اف ام