كانت هناك انتعاشة في الأمل بتحقيق الحسم العسكري، بعد تقدم كبير في الجبهات، الجنوبية والشمالية الغربية والقلمون، وتعالت أصوات “ترفض الحل السياسي”، وتصاعدت لغة النصر لدى قطاع كبير في “معارضة الخارج” (هي خارج طبعاً)، التي باتت لا تقبل الحديث سوى عن الحسم العسكري “القريب والحتمي”.
ترافق ذلك مع تصعيدٍ في الخطاب الطائفي من جزء كبير منها، حيث بات يظهر أنها تعبّر عن “السنّة”، هذه “الأغلبية المضطهدة” من “أقلية علوية”. وذلك كله تماشياً مع تسويق جبهة النصرة، ومجمل “الفصائل الإسلامية”، وتبرير وجودها، وكذلك شرعية هذا الوجود، مؤكدين فكرةً شاعت، منذ بدء الثورة، أنها “ثورة سنية ضد نظام علوي”، أو متوهمين أنهم أكّدوا هذه الفكرة التي ستوصل إلى الانتصار.
لكن، توقف التقدم جنوباً بعض الوقت، نتيجة إرباكٍ أحدثه وجود جبهة النصرة، حيث أصدرت كتائب الجنوب بياناً تعتبر فيه التنظيم تكفيرياً تجب مقاطعته، والسعي إلى إنهائه. وحين عادت إلى التقدم بالسيطرة على اللواء 52، ومحاولة السيطرة على مطار الثعلة المتاخم لحدود محافظة السويداء، بدت أنها تدخل في صراعٍ “طائفي” مع الدروز، هؤلاء الذين أصيبوا من جبهة النصرة، منذ عامين، باختطاف أفراد منهم، وظلوا على تخوّف من فعل طائفيٍّ تقوم به. وعلى الرغم من تطمينات قادة الجبهة الجنوبية، ظل التخوّف قائماً، ومع أن شباب السويداء باتوا يرفضون الخدمة في الجيش، وتحركت بعض زعاماتها الدينية لرفض السلطة ورفض الدفاع عنها. لكن، كان واضحاً أن وجود جبهة النصرة يربك إمكانية تحقيق تقدم جديد هناك.
في الشمال الغربي، توقف التقدم فجأة “من دون ذكر الأسباب”، بعد السيطرة على مشفى جسر الشغور في “وضع غامض”، ثم “قامت جبهة النصرة بالواجب”، بارتكاب مجزرةٍ في قريةٍ درزية في ريف إدلب. وظهر أنه ليس مطلوباً التقدم أكثر. مَنْ حدد ذلك؟ خصوصاً بعد السرعة التي تحقق فيها التقدم والمناطق التي جرت السيطرة عليها، والتي تتاخم “المناطق العلوية”. هنا، يمكن تأكيد أن القوى الإقليمية التي فرضت توحيد الكتائب المسلحة مع جبهة النصرة في “جيش الفتح” هي التي قررت ذلك، بوقف التسليح أو بقرار مباشر، ثم جعلت جبهة النصرة تتحرك، بما يربك الأطراف الأخرى، ويجعلها تتحسب الصدام معها. لنصل إلى أنه في ظل الصراعات الإقليمية، كان مطلوباً أن يتحقق ما تحقق فقط، جزء من تعديل ميزان القوى، ولإظهار المقدرة على التأثير، في سياق مساومات سياسية تجري.
وإذا كانت جبهة النصرة في صدامٍ مع الكتائب الأخرى في تلك المنطقة، حيث صفّت جبهة ثوار سورية وحركة حزم، واصطدمت مع حركة أحرار الشام وجيش الإسلام. وبالتالي، كانت تربك كل الوضع هناك، بما يجعل الصراع مع السلطة مرتبكاً، فإن قوى أخرى، مثل جيش الإسلام، تخضع لـ “قرارات خارجية”. وبالتالي، تلتزم تكتيك دولٍ، لا تريد الحسم العسكري، بل الوصول إلى “صفقة”.
في القلمون، معارك محتدمة، وكرّ وفر، لكن وجود داعش أربك الوضع، وربما وجود النصرة يؤثر سلباً كذلك، مع أن حزب الله يتكبد خسائر كبيرة، وظهر كأنه يقاتل إلى جانب داعش، على الرغم من تحشيده “اللبناني” الذي انخرط فيه الحزب الشيوعي بعد لأيٍ. و”اختفت” معركة حلب كما يبدو، ولعبت السلطة هناك عبر تقدم داعش، كما فعلت في تدمر، وما تريد فعله بتقدم داعش جنوباً، وربما نحو دمشق والقلمون.
إذن، سنلمس أن التقدم العسكري محكوم بأمرين: تحكم دول إقليمية (السعودية، قطر، تركيا) في قوى مسلحة ذات تأثير. الطابع الطائفي الذي يظهر على القوى المسلحة، خصوصاً دور النصرة وجيش الإسلام. وهنا، يظهر مأزق الثورة الآن، حيث وفق منظور أن “الثورة سنية” لا انتصار لها، بل إنها تدخل الصراع في دوامة المساومات الدولية، وفي مسار دموي مستمر استغلته السلطة إلى أقصى مدى. والعجزة الجالسون في الخارج يطبلون ويزمرون لجبهة النصرة وللأسلمة.
العربي الجديد _ وطن اف ام