تشير آخر التصريحات الأميركية إلى رفض واشنطن المنطقة العازلة في الشمال السوري، وهو المقترح الذي تطرحه تركيا. وقبلها قررت تدريب “مقاتلين معتدلين” من المعارضة السورية، فقط للحرب ضد داعش، وطلبت ممن وافق على التدريب أن يوقع رسمياً أن مهمته تتمثل في ذلك فقط، ولا علاقة له بالصراع ضد السلطة.
يطرح هذا سؤالاً عن طبيعة موقف الولايات المتحدة من النظام السوري، ومن الصراع في سورية. هل تسعى إلى “إسقاط النظام”، وافتعلت كل هذه “المؤامرة” من أجل ذلك، كما يشير الخطاب الممانع وخطاب النظام نفسه، أم أنها في مكان آخر يظهر الآن واضحاً؟
لم يكن لدى السلطة، واليسار الممانع خلفها، سوى أن يدعيا أن الثورة من فعل “مؤامرة إمبريالية” ضد سورية، “الدولة الممانعة والتي تدعم المقاومة” و”الدولة التنموية التي أبت الانخراط في النمط الرأسمالي”. لم يكن لديها غير هذا الخطاب، على الرغم من أن الموقف الأميركي منذ البدء كان “باهتاً”، ومتردداً. وفي الواقع، عمل على كبح كل محاولة للتدخل من دول إقليمية، وموّه على المعارضة وضللها، وشوش على الثورة عن قصد. فقد رفض تدخل “الناتو” حين طَرحته تركيا وفرنسا، وماطل لكي لا يتحقق التدخل، ونجح. وكان واضحاً أنه يقرر، على الأقل منذ بداية سنة 2012، أن سورية من حصة روسيا في عملية تقاسم عالمي بين إمبرياليات تجري، خصوصاً هنا بين أميركا وروسيا. ومن ثم عملت على تحوير وضع معارضة الخارج لكي تقبل بجنيف1 أساساً للحل، بعد تهميش سيطرة الإخوان المسلمين فيها. وعلى الرغم من أنها دعمت “الإخوان” في دول أخرى، فهي لم تدعمهم في سورية، لأنها لم تكن تفكّر في ترتيب الوضع السوري، أصلاً، بعد أن “انسحبت” من “الشرق الأوسط” الصغير.
وظهر الأمر في منع إيصال سلاح “نوعي” إلى الكتائب المقاتلة، ربما فلت الأمر في الفترة الأخيرة، وجزئياً فقط، لأن منع إيصال مضادات طيران ما زال قائماً، وهو السلاح الأكثر ضرورة لهزيمة السلطة لشلّ قوتها الجوية التي تفرض واشنطن منع انهيارها. وما زالت تمنع تركيا من أن تتدخل مباشرة، وتتقصد إحراجها والضغط عليها.
لهذا، حينما كان يقال إن أميركا تتلطى خلف الفيتو الروسي، حينما كانت موسكو تتشدد لمنع استصدار أي قرار يدين النظام السوري، كانت تتحجج به، لكي لا تظهر موقفها واضحاً، في وضع كانت تريد اللعب فيه على المعارضة خصوصاً، والسماح بالقول إن أميركا مع سقوط بشار. وما يجري الآن من تحويل للصراع من صراع ثورة ضد النظام إلى “حرب ضد داعش” يوضح الهدف الأميركي. باتت تتدخل في سورية من دون أن يعترض الممانعون ولا النظام. على العكس، يجري التأكيد على أولوية الحرب ضد داعش وعلى التنسيق. وهي تفعل ذلك، بالضبط، لأن أولويتها هي أولوية السلطة نفسها، أي سحق الثورة. بعد الثورات العربية لم تعد أولويات أميركا نفسها التي كانت قبلاً (تغيرت أصلاً بعد نجاح أوباما)، فقد أصبح سحق الثورات الهدف الأساس، لأنها تعي أن العالم الرأسمالي في أزمة عميقة لم تحلّ ولن تحل، وبالتالي، سيعني امتداد الثورات، من تونس إلى سورية، مروراً بكل الدول الأخرى، امتدادها إلى العالم. وإذا كانت قد اشتغلت على تدمير فكرة الثورة، منذ نشر خطاب العولمة، فقد أصبحت معنية بعد انفجارها على تدميرها فعلياً، وتشويهها لكي يتكرّس تدمير الفكرة، على أساس أن ذلك سينهي الثورات في عالم بات مختزناً بالثورة.
لا شك أن الممانعين كانوا يضحكون في سرهم، لأنه ظهر أن أميركا في صفهم، وليس في صف الثورة (يعرفون جيداً أنها ليست مؤامرة)، في وضع يشعرون به أن نظامهم في دمشق يسقط، ربما لولا أن أوباما خرج، أخيراً، ليقول بحكومة سورية موحدة لقتال داعش من دون بشار الأسد.
المصدر : العربي الجديد