لا يحق للعربي أن يقول إنه فوجئ بالإعلان عن الاتفاق النووي بين إيران والدول الست الكبرى. كانت الإرادة في إنجاز الاتفاق واضحة. باراك أوباما يتشوّق إلى لحظة ولادته، وإيران لن تضيِّع فرصة اسمها باراك اوباما. ثمة رجل ثالث ساهم في إنجاز الاتفاق من دون أن يُدعى أو يحضُر. اسمه أبوبكر البغدادي. وفّر ظهور «داعش» على الخريطتين العراقية والسورية فرصة جديدة للقاء الإيراني- الأميركي. أعطى إيران وأذرعها في المنطقة فرصة لخوض حرب وجودية مديدة، بعيداً من تهديد أمن إسرائيل. وهذه الحرب البديلة شرط لا بد منه لتمرير الاتفاق في امتحان الكونغرس الأميركي.
فور إعلان الاتفاق ضاقت الشاشات بالتصريحات والعبارات. «اتفاق تاريخي». «منعطف كبير». «مسار مختلف». «صفحة جديدة»، وصولاً الى القول إن «ما بعد الاتفاق ليس كما قبله». في المقابل اعتبرت إسرائيل الاتفاق «خطأً تاريخياً» وبدا أنها تستعد لمعركة الكونغرس.
أي قراءة هادئة للخطوط العريضة للاتفاق تُظهِر أنه لا يُبرَّر الحديث عن انتصارات مدوية أو مذهلة. ولا يمكن اعتباره «اتفاق إذعان» لا من هذه الجهة ولا من تلك. إنه اتفاق وُلِد من الدروس المستفادة من حرب أوراق باهظة الثمن. من تنازلات متبادلة. اتفقت أميركا عملياً مع الدولة التي كانت تعتبرها عصباً في «محور الشر». واتفقت إيران مع الدولة التي لا تزال تسميها «الشيطان الأكبر».
أدرك المرشد الإيراني أن هتاف «الموت لأميركا» لن يخفف معاناة مواطنيه من العقوبات الغربية والدولية. وأن إيران لن تستطيع أن تكون دولة طبيعية في الأسرة الدولية من دون جواز مرور أميركي. أغلب الظن أنه اقتنع بأن مصلحة النظام تفرض تذكُّر حديث الخميني عن تجرُّع السم ساعة قبوله بوقف النار مع نظام صدام حسين. ولعله يراهن في داخله على التخلُّص من العزلة والعقوبات من دون الاضطرار إلى تغيير جوهري في السياسات، أي التنازل عن إنتاج القنبلة والاحتفاظ بسياسة الفتوحات في الإقليم. وربما لهذا السبب سمح المرشد بوصول حسن روحاني وابتسامته إلى الرئاسة.
في المقابل كان أوباما واضحاً في رهانه على المزج بين العقوبات واليد الممدودة و «عدم الخوف من التفاوض». اعتبر طهران المحطة الأبرز في «تصفير المشاكل» مع كارهي أميركا وأعدائها أي فيتنام وكوبا وإيران. ولا مبالغة في القول إن البغدادي وفّر لأوباما فرصة جديدة لتسويق سياسته الإيرانية.
حصلت إيران عملياً في الاتفاق على اعتراف بقدرتها على إنتاج سلاح نووي. دخلت إلى نادي الدول المقيمة على تخوم السلاح النووي، لكنها تمتنع عن إنتاجه مثل ألمانيا واليابان والبرازيل. اللافت أن المفاوضات النووية مع كوريا الشمالية تمّت في حضور جيرانها وهم الصين واليابان وكوريا الجنوبية فضلاً عن روسيا وأميركا. مفاوضات الدول الست مع إيران تمّت في غياب جيرانها عن الطاولة، وبينهم تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي. وللمشهد مغازيه وآثاره إذا تعاملت أميركا مع الاتفاق كمقدمة لقيام نظام إقليمي جديد.
والحقيقة أن مشكلة دول المنطقة مع إيران تتعلق بالدور قبل القنبلة، في حين أن مشكلة الدول الكبرى معها تتعلق بالقنبلة قبل الدور.
الحيلولة دون قيام نظام إقليمي جديد استناداً إلى الاتفاق النووي الذي أُعلِن أمس تستلزم سياسة نشطة لإعادة التوازن في الإقليم، ترتكز إلى تفاهم سعودي – مصري – تركي على رغم ما يشوب العلاقات بين أنقرة والقاهرة حالياً. من دون هذا الثقل الثلاثي قد تضطر شعوب المنطقة إلى تجرُّع بعض سموم الاتفاق.
ذكّرني إعلان الاتفاق بعبارات سمعتُها كصحافي في السنوات الماضية. في 2007 سألتُ الرئيس جلال طالباني عن رحلته إلى طهران والتي التقى خلالها المرشد والرئيس وآخرين. قال إنهم أبلغوه في شكل رسمي: «إذا كان الأميركيون واقعيين فنحن على استعداد للتفاهم معهم من أفغانستان إلى لبنان».
في 2006 زار الرئيس حسني مبارك فيينا واستقبل مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الدكتور محمد البرادعي. قال له البرادعي: «الاتفاق النووي بين أميركا وإيران سيأتي مهما تأخر. من الأفضل أن يكون العرب حاضرين على الطاولة كي لا يتم الاتفاق في غيابهم وربما على حسابهم».
خلال محاولته إطفاء النار السورية سمع الأخضر الإبراهيمي في طهران جملة بالغة الدلالات: «نحن لسنا دولة مهمة في الإقليم، نحن الدولة المهمة فيه».
في 2007 هبطت في مطار بغداد طائرة تقل الرئيس محمود أحمدي نجاد. كان العراق محتلاً من 170 ألف جندي أرسلهم «الشيطان الأكبر». فُتِحت الحواجز الأميركية لمرور موكب أحمدي نجاد باستثناء واحد أصرّ الجنود الأميركيون فيه على وقف الموكب لالتقاط صورة تذكارية مع الرئيس الوافد من «محور الشر».
تبقى أسئلة: ما هي انعكاسات الاتفاق على الوضع الداخلي الإيراني؟ هل تتغيَّر إيران؟ هل يؤدي إدماجها في المجتمع الدولي والنظام الاقتصادي والمالي العالمي إلى تبريد اندفاعتها في الإقليم؟ إذا لم تتغيَّر سيتبيَّن أن الدور أخطر من القنبلة، علماً أن المشهد الذي رأيناه أمس في فيينا كان باهظ التكاليف في العراق وسورية ولبنان واليمن. كانت السنوات الأخيرة حافلة بمواسم السم في الإقليم.
المصدر: الحياة اللندنية