ترزح مصر تحت حكم عسكري متغلّب، يقوده جنرال مهووس بذاته، يرى نفسه مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ البلاد والعباد من “الأشرار”. لا يخفي الرجل حقيقته، فهو يرى، وكذلك كثيرون من دراويشه ومهاويسه، أن الأقدار اختارته لمهمة تاريخية، رآها في منامه قبل أربعة عقود.
يخبرنا التاريخ، أيضاً، أنه كلما استمر الجنرالات في السلطة ازداد شططهم، وتضخم هوسهم بأنفسهم، وأصيبوا بحالة متقدمة من “جنون العظمة”. وهو ما تبدو أعراضه جلية في الحالة المصرية. فالجنرال عبد الفتاح السيسي، بعد عامين فقط في السلطة، أصبح طبيباً وفيلسوفاً ومن الرسل والصحابة. لا يدرك كثيرون أن الرجل بات يصدق نفسه، وأنه بالفعل مخلوق فريد يتفوق على الآخرين، بفكره ورؤيته وحكمته وكلماته. اقرأ فقط تعليقات مهاويسه عليه، وعلى تحركاته وخطبه، وراقب رد فعلهم على قراراته وسياساته، وسوف تجد نفسك أمام حالة جنون جماعي، وكأنهم مسحورون ومفتونون به. ومن أعراض جنون العظمة، أيضاً، أن يتخيل الحاكم أنه يحكم “أعظم بلد” و”أفضل شعب”، ولديه “أقوى مؤسسات” و”أكفأ رجال”، وأنه سوف يحقق “المعجزات”، وأن اسمه سوف يُخلد في سجل العظماء، وهي العبارات نفسها التي لا يخلو منها خطاب للسيسي.
قصص الجنرالات والحكام العسكريين المخبولين والمصابين بجنون العظمة كثيرة، ولم يبخل علينا التاريخ بها، وغالبا ما تكون نهايتهم مأساوية. خذ، مثلاً، شارل السادس، ملك فرنسا الذي لم يكن يستحم شهوراً، وكان يتصور نفسه أنه مصنوع من زجاج، ووصل إلى مرحلة عدم تمييز أولاده وزوجته إلى أن انتهى به الحال وحيداً ومعزولاً، حتى مات عام 1422.
وخذ أيضا الديكتاتور الروسي، جوزيف ستالين، الذي حكم روسيا أكثر من ثلاثة عقود، وكان يرى نفسه مبعوث العناية الإلهية، لإنقاذ الشعوب الكادحة من استعباد الرأسمالية، فكان أن قتل ملايين الروس، من أجل إثبات صحة نظريته. ومن فرط جنون العظمة الذي أصابه، قيل عنه إنه كان يرغب في تكوين جيش قوي و”سوبر”، يغزو به العالم، ويكون من جينات البشر والقرود. ونُقل عنه أنه يريد “مخلوقاً بشرياً جديداً غير مرئي، لا يحس بالألم، مقاوم ومختلف في نوعية الغذاء الذي يتناوله”. وقد مات ستالين مسموماً، بحسب رواياتٍ كثيرة، بعد تناول العشاء في بيته الريفي، وظل ملقياً على أرض غرفته يوماً كاملاً، لأن أحداً لم يكن يجرؤ على طرق باب غرفته، أو الدخول عليه، من دون إذن مسبق منه.
أما أشهر حكايات الجنرالات المهووسين فهي في منطقتنا العربية، فالديكتاتور الراحل، صدام حسين، كان مولعاً بتمجيد ذاته، ويرى نفسه خليفة جمال عبد الناصر، وقائد أكبر جيوش المنطقة، فكان أن ارتكب جرائم كثيرة بحق شعبه. كان صدام يخلع على نفسه صفات التبجيل والتوقير مثل “الرئيس المؤمن” و”القائد المجاهد” و”أسد الخليج”، إلى أن انتهى به الحال فى “بئر معطّلة”، ظل مختبئاً فيها شهوراً قبل إعدامه شنقاً. وخذ أيضا الطاغية الليبي، معمر القذافي، “ملك ملوك أفريقيا”، ومؤلف “الكتاب الأخضر”، وصاحب المقولات التاريخية الطريفة، ومنها “للمرأة حق الترشح، ذكراً كانت أو أنثى”، و”أيها الشعب، لولا الكهرباء لجلسنا نشاهد التلفاز في الظلام”، وكانت آخر كلماته “سأظل في ليبيا إلى أن أموت أو يوافيني الأجل”. وجدير بالذكر أنه عُثر على القذافي مختبئاً في “ماسورة صرف صحي”، قبل أن يتم سحله وقتله، والتمثيل بجثته بشكل مروّع.
النهايات الطبيعية للجنرالات المهووسين معروفة ومكررة، وفي معظمها نهايات تراجيدية، لا تخلو من مفارقات. ولو أن ثمة حكمة وعقلاً لدى شعوبهم، لوضعوا جنرالاتهم في مستشفيات الأمراض العقلية، أو مصحات نفسية، تعالجهم من “جنون العظمة”، قبل أن يدمّروا بلدانهم. ولكن، من يسمع ويعقل؟
المصدر : العربي الجديد