قطعت “عاصفة الحزم” مع ما سبقها من سياسات وأجواء محلية وإقليمية ودولية. وجاءت ردا على حدث قطع بدوره مع ما سبقه، وضع سلطة ومصير دولة عربية خليجية مهمة في أيدي أصدقاء إيران من الحوثيين، الطرف الخارج على نظام بلاده الذي سبق له أن خاض حروبا متعاقبة ضده، بمعونة إيران قوة إقليمية، لا تخفي عداءها للعرب، وعزمها على تحويل بلدانهم إلى توابع لها، بما لها من اختراقات منظمة داخلها، أثبتت نجاعتها في لبنان والعراق وسورية، وها هو اختراقها اليمني يتحرك لإثبات فاعليته.
إذا كان معروفا الواقع الذي نغادره، فإن المصير الذي ينتظرنا ما زال مجهولاً ومشحوناً بأخطار تفرض علينا التعامل مع الأحداث بروحية مفعمة بالحذر واليقظة، وبقدر كبير من المرونة على داخلنا، والصلابة حيال خارجنا، لم نعهدهما من قبل في خياراتنا وسياساتنا، وقدر من الجدية لا يستهين بعدو أو يفرط بصديق، وتحتم سيرنا على طريق نرى نهايتها منذ بدايتها، فلا نتخبط أو نضيع فيها، أو نقف حيث يجب أن نسير، ونسير حيث علينا التوقف.
تقطع “عاصفة الحزم” مع ما سبقها، والقطع مع الواقع القائم فعل شديد الصعوبة، كثير التعقيد ويودي إلى المهالك، إلا إذا انطلق من أفضل ما هو قائم في الواقع الذي تقع القطيعة معه، وتحرر بسرعة مما هو فاسد وفات زمانه فيه، واستند إلى قوى مجتمعية وسياسية مهيأة لحمل مشروع تجديد هي طرف مقرر فيه، يبدأ بتنفيذه القطع مع ما هو قائم.
لماذا يحتاج العرب إلى القطع مع واقعهم؟ الجواب المرجح: لأنهم لن يتمكنوا من كسب معركة تحجيم الوجود والنفوذ الإيراني في الخليج والمشرق، ناهيك عن إخراجه منهما، إن بقوا على ما هم عليه من تشتت وخلاف، وظلت علاقاتهم الداخلية محكومة بالتناقض بين النظم وشعوبها، وبما بينهما من قطيعة، يمكن أن تتسع وتتعمق خلال معركةٍ، طرفها الآخر خصم يخترق مجتمعاتنا، وله فيها أسافين ساعدته على تكوينها سياسات إقصائية، دأبنا على ممارستها ضد مكونات من جماعاتنا الوطنية، رأينا فيها الآخر المعادي والمختلف، وليس مكوناً أصيلا من شعبنا، له ما لنا وعليه ما علينا، من المحتم أن تكون له حقوق مصونة، وأن ينعم بقدر من العدالة، يساوي ما ينعم به باقي مواطنيه.
بما أن معركتنا ضد إيران تدور داخلنا أيضا، وتشبه جراحة تقتلع كياناً غريباً من جسمنا، فإن خسارتها أو توقفها قبل تحقيق أهدافنا سيقلبان علاقاتنا مع طهران إلى حال هي فيها المركز، ونحن الهامش التابع الممسوك بقوى مزدوجة، خارجية وداخلية. السؤال الذي يطرح نفسه علينا اليوم: هل اتخذنا في أيٍّ من المجالات الرسمية والوطنية الخطوات الضرورية لكسب معركتنا الصعبة، وهل نخوضها لإنقاذ أوضاعنا الراهنة، الفاسدة والمتهالكة، وما ستفرضه علينا من حلول تبقي اليد الطولى في بلداننا لإيران ومرتزقتها الذين سيصيرون، عندئذ، سادة أوطاننا، كما هو حالهم في لبنان والعراق؟
يقف الخليج أمام منعطف تاريخي ستقرر نتائجه مصيره عقوداً مقبلة، فهل أخذت هذه الحقيقة بالاعتبار في تفكيره وخططه، وفي الحرب التي يخوضها؟ وهل وضع في حسبانه ما قد تمليه مجرياتها عليه من تدابير وإجراءات يرفضها قادته اليوم، لكنها قد تصبح إنقاذية غداً؟
بدورها تواجه إيران وضعا لا يقل صعوبة عن وضع الخليج، فالاتفاق النووي يفتح الباب أمام أشكال تدخل متنوعة في شؤونها، لأن تطبيقه يعني تقييد سيادتها، أقله فيما يخص برنامجها النووي، بينما ستذهب علاقاتها نحو الأحسن مع بلدان العالم الأكثر تقدماً والأقوى عسكرياً، التي فرضت عليها ما رفضته طوال عشرة أعوام ونيف، وإلى الأسوأ مع جيرانها المباشرين، الذين نجحت في مد أيديها عميقا إلى عالمهم الداخلي. أليس من اللافت أنها تتراجع أمام الغرب بينما تقتحم وتحتل اليمن، اعتقاداً منها أن الخليج ضعيف، تكفي لاختراقه قلة منظمة، مدربة وجيدة التسليح والتوجيه، تفيد من تشتته السياسي، وتهافت نخبه الحاكمة والمعارضة، ومن الهوة القائمة بين حكامه ومحكوميه، وافتقار مجتمعاته إلى خبرات سياسية وتنظيمية كافية لصد خطط غزوها من الداخل التي ينفذها أتباع فارس ممن يستغفلونها، ويدغدغون عواطفها عبر استخدام دعاوى مفرط لما يشوب حياتها الوطنية من نواقص وعيوب جسيمة فشلت نخبها في التصدي لها.
من المرجح أن تطبع إيران علاقاتها مع العالم الغربي، من خلال الاتفاق النووي، وأن تتكيف مع مصالحه في المنطقة العربية بصورة خاصة، مقابل ممارستها دوراً يتكامل مع الدور الإسرائيلي، سواء حدث ذلك عن وعي أم بحكم الاصطفاف الذي سيفرضه انضواؤها في قضايا وسياسات دولية تجاه عربٍ يستضعفهم الجميع: شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوبا، بينما تعد طهران نفسها بدور خاص وفير المغانم، سيتيحه لها الإمساك ببلدانهم بقوة اختراقاتها الداخلية المتوضعة في كل مكان منها، والتي نجحت، في العقدين المنصرمين، في تعبئتها وفصلها عن باقي مجتمعها، وتنظيمها وتدريبها وتسليحها، وتحويلها إلى فصائل من جيوشها تأتمر بأمرها، وتنفذ استراتيجياتها.
لكن، ستواجه إيران وضعا شديد الخطورة عليها، وعلى أتباعها، إن تطور الموقف العربي وتكامل وأنضج على صعيديه، الوطني والقومي، واكتسب ديمومة يتنامى العرب بفضلها إلى جسد يزداد وحدة وتكاملا، يحل مشكلات المشرق، ويخرج إيران منه، ويقوض قدرتها على اختراقه من جديد، ووضعه أمام أحد خيارين: الخضوع لها أو الحرب الأهلية، كما فعلت في لبنان وتفعل في سورية والعراق، وأخيراً اليمن. تواجه إيران اليوم محدودية سيادتها في الاتفاق النووي، وحدود قوتها في الخليج، بفضل “عاصفة الحزم”، وما تطرحه عليها من خيارات تتراوح بين الوقوف مكتوفة اليدين حيال تحجيم مرتزقتها، وتقويض قدراتهم العسكرية وطموحاتهم السياسية، وربما إخراجهم من المعادلات السياسية، والانخراط في معركة يحولها تدخلها إلى حرب قومية، لن يكون لديها القدرة على كسبها، إن تجرأت وخاضتها أصلاً، لأنها ستكون حرباً طويلة، طرفها الآخر العرب يدعمهم القسم الأكبر من العالم الإسلامي، ستنهي بصورة مأساوية الشراكة التاريخية التي جمعتها بالعرب والمسلمين، لكنها استغلتها لأغراض طائفية تجافي المحمدية السمحاء، مزقت العالمين العربي والإسلامي وخدمت أعداءهما.
تواجه أطراف الصراع الذي فتحت صفحته بصورة معلنة مع “عاصفة الحزم” مشكلات تتعلق بسياساتها ونظمها واستراتيجياتها التي يرجح أن تكون لها انعكاسات جدية جداً، وبعيدة الأثر عليها. من ذلك، مثلاً، رد إيران على سؤال مهم: إذا كانت قد اضطرت لقبول اتفاق نووي مع الغرب، لطالما رفضته خلال عشرة أعوام ونيف، وكانت لا تستطيع التدخل لمساعدة الحوثيين على الصمود والانتصار في اليمن، فهل سيكون في وسعها التمسك، من الآن فصاعداً، بسياسات عربية تضعها أمام تحديات محرجة في كل ما يتعلق بعلاقاتها مع جيران، يملكون قدرات كبيرة بدأوا باستخدامها، راهنت دوما على تعطيلها، وها هي تلعب اليوم الدور الأكبر في تفعيلها؟ وماذا يبقى أمام إيران من خيارات، إن قررت خوض المعركة، غير التحالف مع إسرائيل، وهل ستكون عندئذ قادرة على الخروج من ورطتها، والاندماج من موقع قوي في استراتيجيات واشنطن العربية؟
هناك طرفان يواجهان، اليوم، تحديات أوضاعهما وسياساتهما وخياراتهما. أما الطرف الذي سيخرج فائزا منها، فهو الذي سيسارع، قبل غيره، إلى إزالة ما في أوضاعه من عيوب ونقاط ضعف، بإجراء إصلاح تتطلبه معركة مفصلية، لن يبقى شيء بعدها كما كان قبلها، حتى إن توقفت في منتصف الطريق، لما لها من أبعاد استراتيجية وعملية مفصلية وشاملة، يستحيل حصر نتائجها ضمن حدود أي بلد، مع أن أي بلد لن يبقى على حاله بعدها.
بـ”عاصفة الحزم”، خرج الخليج من الجمود والسلبية إلى المبادرة، وانتقلت إيران من الهجوم إلى الدفاع، ووقعت الاتفاق النووي كي تحسن موقعها المعادي للعرب، وتحتوي المعاني السلبية لموقفها من اليمن، وواجه الطرفان ضرورة الانتقال إلى وضع جديد، فهل يصل الإصلاح المنشود، والإنقاذي الذي سيتعين بعمقه الانتصار من الهزيمة، إلى الأسس الداخلية لسياسات الخليج الهجومية في جزيرة العرب، وسيعني الدفاع الإيراني انكفاء طهران عن العالم العربي، بدءاً من اليمن، أم أننا نعبر عن أحلامنا حيال ما نبتغيه لعالم لا يريد الخروج من بؤسه، يغرق تحت طوفان من الرصاص والقنابل، وبحار من الدم، لأن غرقه هو قدره الذي لا يعرف كيف يواجهه؟
المصدر : العربي الجديد