“أنا أو الفوضى”، كانت هذه سردية الطغاة لتبرير بقائهم في كراسي الحكم، مع الفساد والاستبداد وسفك الدماء، في خطاب موضوعي ظرفي ينفي عن الذات أي مسؤولية أخلاقية أو واقعية، ويراهن على فشل الآخر وشيطنته وتضخيم أخطائه، في تخيير بين أقل الشرّين، أو بين الشيطان الذي تعرفه والذي لا تعرفه، وكأن التاريخ والإنسان عاجز عن أن ينتج خيارًا ثالثًا خيّرًا.
كانت الفوضى إذن، وأخذت اسمًا وشكلاً وهيكلة وتراتبية إدارية، لا بل وأصبح لها دولة كذلك، تسمي نفسها “الدولة الإسلامية”، لكن اسم داعش هو الأشبه بفوضاها وعبثيتها، التي يجيد كل من الـ “أنا”ــت الذين أنتجوها، والنظام العالمي السياسي البراغماتي القائم على المصلحة، والقائمون عليها والغارقون بها، إدارتها واستخدامها وإعادة تشكيلها، في حرب قائمة على الأرض المحروقة والانتحاريين والبراميل المتفجرة، لا على الخطط العسكرية والسياسية.
يكثر الحديث والخطاب والنقاش عن بنية داعش -الأيديولوجية والفكرية والدينية من ناحية والسياسية والعسكرية والواقعية من ناحية أخرى- كجاذب ذاتي للشباب ومحرقة لهم، لكن الواقع هو أن جاذبية داعش موضوعية وظرفية أكثر من كونها ذاتية، وأنها رد فعل أكثر من كونها فعلاً، بمعنى أنها لم تكن أكثر من مآل ومهرب لشباب لم تعد حياتهم -من أبسط مستوياتها الشخصية والنفسية إلى السياسية والعسكرية والاجتماعية- قابلة للاحتمال، فصارت داعش هي ظلمة النفق التي لجأوا إليها لما غاب نور نهايته، و”فاتهم القطار”؛ قطار الإصلاح والتغيير، رغمًا عنهم كذلك لا بإرادتهم.
أتت داعش كطرف ثالث عدا الثورات والأنظمة، واستغلت حالة العنف والفوضى والفساد التي تستخدمها الأنظمة، وحالة انسداد الأفق واليأس التي يعاني منها الثوار، فنتج هذا الكيان المشوه الذي يسمى داعش من انسداد كل هذه الآفاق معا.
الأفق السياسي
ولعله السياق التاريخي الذي أدى لإعادة إنتاج داعش، وتضخمها وكبرها، عندما سدت الآفاق أمام “الربيع العربي”، الذي طالب بأبسط الإصلاحات السياسية وحقوق الإنسان والكرامة، ثم استحال “شتاء” عنيفًا مسلحًا – بحسب توصيف الدكتور الشنقيطي- لما رفض وقمع بالدبابات والطائرات.
لم يكن قمع الربيع العربي هو الذي أدى لظهور داعش وجاذبيتها، لكنها كانت الثورات المضادة التي أظهرت فعلاً انسداد الأفق، وأعطت انطباعًا بـ”لا جدوى” الحلول الديمقراطية لما أفشل الانقلاب العسكري ثورة مصر، وأعادت الهيمنة الإيرانية -في اليمن وسوريا والعراق- والدعم الاقتصادي من الملكيات العربية – في ليبيا وتونس ومصر- الأنظمة القديمة التي ارتكبت المجازر بتوحش لا يقل عن توحش داعش، على مرأى ونظر وانتهاك كل الخطوط الحمراء العالمية، دون تفاعل.
الأفق الاقتصادي
من ناحية أخرى، عانى الشباب من ظروف اقتصادية قاسية، في أنظمة ينهشها الفساد والرشوة والمحسوبيات، وفي بلدان مليئة بالموارد الاقتصادية والخيرات، وغياب للفرص الحقيقية لشباب يحلم بأبسط مقومات الحياة، غالبًا ما يتحول لأرقام كبيرة ترفع نسب البطالة بعد التخرج المكلف -لمن استطاع أن يكمل الدراسة الجامعية على تكلفتها.
جزء كبير من الشباب الذي توجه إلى داعش كان من الطبقات المسحوقة بالمجتمع، يعاني من يأس وتعب شخصي، يرجع مرده بالدرجة الرئيسة إلى سعيه المحموم نحو لقمة العيش دون جدوى، فيؤدي به الحال إلى الهروب من كل ما كان به نحو داعش، التي توفر بالمقابل حياة مادية مريحة نسبيًا، براتب كاف، وموارد دخل، و”وظيفة”.
الأفق الهوياتي
ولا يحتاج هذا كثيرًا من السرد، إذ يعاني “العرب السنة” من غياب تمثيل حقيقي لمطالبهم، ومدافع صادق عن مظالمهم، في وقت يتم به دعم مليشيات الحشد الشعبي الشيعية إيرانيًا في العراق، ونظام الأسد في سوريا، والحوثيين في اليمن، بالمال والسلاح والرجال، بمباركة دولية باسم “مكافحة الإرهاب”، في حين يجد السنة أنفسهم محاصرين ومضطهدين في كل بلدانهم، دون وجود ممثل حقيقي، مع كونهم الأغلبية ضمن الأمة.
أتت داعش واعتبرت نفسها مدافعًا وحاميًا عن مشروع السنة، وبنت مشروعها السياسي والعسكري بالدرجة الرئيسة على أنه مشروع “سني” هوياتي، وليس مشروعًا “حقوقيا” أو “إصلاحيا” سياسيًا – بعكس الثورات- وذلك بهدف حماية السنة واستهداف أعدائهم حيث كانوا.
كما ركزت داعش على “المظاهر” في مشروعها السياسي والعسكري، إذ كان تركيزها على “الرموز”، بعيدًا عن القيم، مثل الخلافة، والخليفة، وفتح روما، وغيرها، بشكل مكثف، مما اجتذب الأجانب الذين يعانون من تهميش هوياتي في مجتمعاتهم، واغتراب وانفصال عنها، مقابل الحلم بعودة الخلافة وتحرير فلسطين وغير ذلك، ضمن حلم “الدولة الفاضلة”.
جانب هوياتي آخر أخذ تمظهرًا واقعيًا هو العنف المقابل لعنف العولمة والحداثة -تحت ذريعة مكافحة الإرهاب- وهو ما عزز مشروع داعش القائم على الهوياتية.
لماذا؟
مع كل هذالأسباب، عملت داعش على دعاية مركزة تستهدف هذه الجوانب من انسداد الآفاق لتجذب الشباب إليها، مراهنة على فشل المشاريع الأخرى، واستمرار هذا الانسداد وهذه الظروف، وتقديم نفسها كبديل سياسي واقتصادي وهوياتي، وملاذ نفسي يقدم “حلم الخلافة” و”المدينة الفاضلة”، وهو ما يتطلب مواجهة هذه الدعاية وتفنيدها نفسيًا من ناحية، ولكن الأهم يكون بحل المشاكل أو نفي الأسباب التي تؤدي لتشكيل هذه الظاهرة، بحل الإشكالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات العربية، وهذا ما سيعمل بشكل تلقائي على تفكيك داعش بانتفاء الأسباب التي أدت إلى تجنيد الشباب بها من ناحية، وتفكيك الارتباط العضوي بينها من ناحية أخرى.
إذا كانت الثورات قائمة على الأمل، فإن داعش قائمة ومتغذية على اليأس، وإذا كانت الخيارات الواقعية اليوم هي “العدم” و”المدينة الفاضلة” -وكلاهما غير واقعي- فإن الثورات تظل الخيار الواقعي الإصلاحي، الذي سيبقى ويتمدد زمانيًا، بعد أن ينهار حلم وزيف البقاء والتمدد المكاني لداعش، بدم الثائرين ودمعهم، وأملهم وإيمانهم قبل كل شيء!.
المصدر : صحيفة التقرير