مقالات

عصام الخفاجي – سايكس – بيكو كردياً

اختصر الكرد مسافة احتاج عرب المشرق إلى أكثر من نصف قرن لاجتيازها.

تربّى معظم عرب المشرق، كما كتبت وكتب غيري مراراً، على أن دولهم نشأت بفعل مؤامرة سايكس – بيكو لتقسيم أمة يتخيّلون أنها كانت موحّدة مما يسهّل للبريطانيين والفرنسيين التحكّم بها، وأن هذه الأمة لن تستعيد مجدها ولن تحتلّ الموقع اللائق بها ما لم تستعِد تلك الوحدة. وتربّوا على أن أنظمة الحكم التي تولّت السلطة بعد نيل الاستقلال، وهو استقلال زائف في رأيهم، لم تكن ذات مصلحة في استعادة المجد التليد، إذ هي صنيعة الاستعمار. لكن تلك الوحدة المنشودة ظلّت مستعصية على التحقيق بعد استلام الوحدويين الحكم، فتعدّل الخطاب ليقول أن الاستعمار وإسرائيل والرجعية العربية تدقّ الأسافين بين الأشقّاء. وانقضى نصف قرن أو أكثر من الحروب والمؤامرات والانقلابات والاتفاقات ونقض الاتفاقات قبل أن تصحو الغالبية من الكابوس/ الوهم.

لم يختلف الكرد عن أقرانهم العرب في تفسير تكوين دول المشرق بالمؤامرة. لكن المؤامرة تكمن في أعينهم في إلحاق كردستان بالدول الجديدة، لا في تكوين دولة كردية حُرموا منها حتى لو كانت مصطنعة. وتطابقوا مع العرب في إشاعة خطاب عن أمة كردية موحّدة تم تقسيمها. فالخطاب الكردي المحرّض للعواطف حريص على تجاهل حقيقة كون كردستان إيران كانت طوال قرون جزءاً من الإمبراطورية الفارسية التي لم تطلها خطط التقسيم الاستعماري لتركة الحرب العالمية الأولى، إذ هي لم تشارك في تلك الحرب. ومثله خطاب العروبيين المتجاهل لكون المغرب لم يخضع لسلطة خليفة أو سلطان ولحقيقة أن خضوع مصر والجزيرة العربية كان شكلياً فقط. خطاب الكرد، كما خطاب العرب، يعفي النفس من مسؤولية قيام الدول هنا وتعذّر قيامها هناك بإلقاء المسؤولية على المتآمر الأجنبي.

وكما هي حال عرب فترة صعود نظم القومية العربية، خاض الكرد حروباً أهلية ونظّموا مؤامرات ومؤامرات مضادّة. طوال ربع القرن الأخير كان لأكراد العراق، على خلاف كل أكراد المنطقة، أرضهم وسلطتهم. وككل حركة قومية كانت القوى السياسية الكردية المتنافسة في العراق ترى نفسها ممثلة للأمة الكردية كلها. يدعم هذا الطرف أكراد إيران حاظياً برضا نظام البعث العراقي، ليدعم الطرف الآخر أكراد تركيا حاظياً بدعم إيران.

بعد قرن من الأهوال التي تعرض لها الشعب الكردي، يرى الكرد تهاوي دولتي العراق وسورية بشكلهما العروبي. وهو أمر يحق لهم اعتباره بداية لتحقيق حلم كافحوا من أجل تجسيده. لكن أكراد العراق، وقد اقتربوا من تحقيق استقلالهم الكامل وتكوين دولتهم، يقتربون أيضاً من الاعتراف بما احتاج عرب المشرق نصف قرن للاعتراف به، وهو أن الوحدة الكردية، كما الوحدة العربية، ليست غير وهم، وأن التفاوت والاختلاف التاريخي والمجتمعي والاقتصادي بين أبناء الأمة، وليس التآمر الاستعماري، هو ما يملي على أكراد كل من البلدان التي يخضعون لها بناء كياناتهم الوطنية التي قد تتخذ شكل دولة مستقلة وقد لا تتخذه. فلا الاشتراك في اللغة، وهي كما لغات المشرق العربي ومغربه ليست مشتركة، ولا التجاور بين الأقاليم، قادران على محو التفاوتات، وإلا لكانت الولايات المتحدة وكندا بلداً واحداً، وكذلك أميركا الجنوبية (عدا البرازيل الناطقة بالبرتغالية).

اعتراف الكرد الضمني جاء عبر إعلان رئيس إقليم كردستان السيد مسعود بارزاني، الذي سبقه قبل يومين إعلان مماثل على لسان ابنه مسرور بارزاني، وهو مسؤول الأمن القومي للإقليم، بأن حزب العمال الكردستاني، وهو الحزب القائد للحركة الكردية في تركيا وسورية، ضيف انتهت فترة ضيافته وعليه العودة إلى أراضيه. هو اعتراف بأن حرمان الكرد من تأسيس دولتهم قد يكون مؤامرة، لكن انقسام الكرد، كما انقسام العرب، ليس نتاج مؤامرة. وهو اعتراف صحّي بالتخلّي عن خرافة الأمة المتجانسة التي ما إن تتخلّص من سيطرة الآخر حتى يغدو الطريق سالكاً لإعادة ما شذّ عن الطبيعة إلى طبيعته.

سلطة الإقليم في كردستان حفرت خنادق على الحدود بين كردستان سورية وكردستانها. لكن حزب العمال الكردستاني الذي يحظى بدعم إيراني، والذي يتّخذ أسماء عدة في كل منطقة يحلّ فيها، مقيم في سنجار اليزيدية التي حررها (وارتكب انتهاكات بحق عربها) وفي جبال قنديل المحاذية لتركيا، بل في كركوك البعيدة المحاذية لإيران. وهو يكسب جمهرة واسعة من شباب كردستان العراق المبهورين بانتصاراته على «داعش» في سورية على رغم تضييقات تركيا على نشاطاته.

يسهل على القومي الكردي القول إن الانقسام سياسي فحسب. هو انقسام بين حركات تتصارع على النفوذ. لكن وهم الوحدة العربية تبخّر هكذا كذلك. صراع على من يقود الأمة العربية ويمثّلها وعلى من يدافع عن أمانيها المفترضة في الوحدة. صراع قادة على كسب جمهور لا يزال يؤمن بأن قوّة الدولة المستقلة، ودولة كردستان العراق لا تزال مشروعاً لن يتحقق إلا بعد سنوات، تكمن في حجم المساحة التي تسيطر عليها وفي عدد من يخضعون لسلطتها.

صراع الزعامة بين البعث وعبدالناصر، وبين البعثين السوري والعراقي، وبين هؤلاء والقذّافي، كشف (إلى جانب عوامل أخرى) عورة الفكرة القومية العربية. واليوم ثمة صراع بين رؤيتين وشخصيتين. حتّى وقت قريب لم يكن بوسع الكردي، أيّاً كان البلد الذي ينتمي إليه، الفصل بين قضيته وزعامة القائد الأسطوري الملّا مصطفى بارزاني الذي قاد كفاح شعبه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن شبح عبدالله أوجلان، زعيم أكراد تركيا القابع في السجون التركية مدى الحياة، صار رمزاً موازياً يهدّد ورثة تلك الزعامة التاريخية. ومحاولة مسعود بارزاني تكوين تجمّع يضم أكراداً من بلدان شتّى في مؤتمر عُقد قبل سنتين في اربيل، لم تكن غير تأسيس لمنظّمة لا تختلف إلا قليلاً عن جامعة الدول العربية.

في أواسط الثمانينات زار بارزاني دمشق قادماً عن طريق البر من كردستان. كان ثمة طوفان بشري من أكراد سورية يحيط بموكبه ويحمل صوره. أما اليوم فليست ثمة صور لغير أوجلان.

ستظل العائلة بارزانية متمثّلة برئيس الإقليم مسعود وابن أخيه رئيس الوزراء نيجرفان تحظى بشعبية سياسية كبيرة بين أكراد العراق، لكن ألقها التاريخي العابر للحدود انطفأ بلا شك.

المصدر : الحياة اللندنية 

زر الذهاب إلى الأعلى