لا يمكن لأحد أن ينفي الإغراء الأصيل في نظريات المؤامرة، وقدرتها المستمرة على تجديد أسرارها، واكتشاف مفاتيح وخرائط تشويق مبدعة إلى متاهات الأيدي الخفية المتحكّمة بالعالم، في انتصار أدبيّ للسرد والحبكة في مقابل جفافية وعلموية الواقع، وكتمرّد غاضب على الاحتكار النخبوي لفهم العالم، تتبدى النظرية هنا كتجلٍّ للنزعة الأصيلة في الكائن البشري لاكتشاف المبهم وتفسير الكون، كالأساطير أو الأديان الوضعية أو الأيديولوجيات الشمولية أو السرديات الكبرى بعامة، وكمظهر آخر لعدم اكتفاء الإنسان بالمباشر والمرئي والموجود، من دون أن ينجيها هذا الامتياح الرومانتيكي من النزعات البدئية (الفطرية؟) في الإنسان، من كونها نتيجة عوامل نفسية واجتماعية وسياسية وثقافية تسمح (أو تدفع) لرواج سرديات المؤامرة في ظرف وزمن ما، كأيديولوجيا هيمنة تعمي عن الواقع (بحسب مفهوم ماركس للأيديولوجيا)، ولا يعفيها الأمران من محاسبتها وتعريفها كخيال مضلّل، وكأيديولوجيا هروب، من منطلق مسؤوليتنا الثقافية والثورية في الراهن الذي لا يسمح، كالماضي، بالانتصار التأمّلي للفنّي المحض في مجابهة معاركنا ومسؤولياتنا الواقعية والملحّة والفجّة جدّاً.
تمييز بدئي
لا بد من التمييز بداية بين ثلاثة مستويات من استدعاء المؤامرة:
أولاً: الحديث عن مؤامرة محددة لتفسير حادثة سياسية طارئة في نطاق محلي محدود، ويكثر هذا في الأنظمة الاستبدادية، لكسب الشرعية عبر العدو، وإن كانت بعض هذه المؤامرات تعني وجود مخططات واقعية محتملة، لا كأيديولوجيا.
ثانياً: الحديث عن مؤامرة دائمة تستهدف قضية معينة بحيث تعرّف هذه القضية نفسها كموضوع لهذه المؤامرة العابرة للزمن، وهذا تستعمله الأنظمة الديكتاتورية أو المنظومات المغلقة والهويات المهددة بعامة لتحصين نفسها ضد النقد أو التفكيك.
أما ثالثاً: فتكون المؤامرة الأشمل، حيث تبلغ النظرة المؤامراتية تحققها المثالي ونطاقها الأوسع، ويمكننا التكلم وقتها من دون حواشٍ أو استدراكات عن المؤامرة كسردية كلية، وكأيديولوجيا شمولية، أو كدين جديد، إذ نتكلم عن مؤامرة عابرة للمكان والزمان، وقادرة على تفسير كل شيء، وتتعلق بطوائف خفية تحوك الشر للعالم في مؤامرة مستمرة منذ عقود أو قرون، كالحديث عن الفرق الماسونية أو المؤامرة اليهودية على العالم (أو على القيصرية الروسية/الرايخ الثالث /القومية العربية/ الأمة الإسلامية … إلخ)، وفي الدول الشمولية فلا داعي لأن تكون هذه المؤامرات سابقة على نشوء الدولة، حيث الزمن نفسه يبدأ من هناك.
كما أننا نميز ما بين النزعة المؤامراتية وما بين سردية المؤامرة، حيث الأولى تدل على الميل النفسي لاستدعاء التفسير المؤامراتي كأيديولوجيا، بينما السردية تتعلق بمضمون المؤامرة نفسها. كمنتج أدبي وتخييلي في المقام الأول، الأولى تتعلق بالذات والثانية بالموضوع.
وسنخصّ في هذا المقال المؤامرة كأيديولوجيا بالتحليل، كاستدعاء للأسرار والاستيهامات لتفسير الواقع بديلاً عن العوامل الموضوعية التي يمكن النقاش حولها إثباتاً أو دحضاً، حتى نخرج من النقاش المكرور حول إثبات المؤامرة أو نفيها أو الحلول المسالمة التي تأخذ موقع الوسط، حيث لا تندرج “المخططات” أو مشاريع الهيمنة ضمن نطاق المؤامرة هنا، حيث ينتمي كلاهما لعالم الواقع الممكن تحليله أو استشرافه أو التنبؤ والاختلاف حوله، لا لوسواس الأسرار.
ولئن اعتبر كارل بوبر أن العلم تعريفاً هو القابل للدحض، فإن سرديات المؤامرة تأخذ قيمتها من لا قابليتها للدحض أو الإثبات، وهو جهد يستحق الإعجاب ذاك الذي يبذله عصابيو المؤامرة في محاولتهم المستميتة لإثبات وجود ما لا يمكن إثباته، وأن هذا المبهم بالذات هو ما يجب أن نرى من خلاله الواضح.
وكذلك سيكون للظاهرة التوتاليتارية النصيب الأوفر من تحليل النزعة المؤامراتية وسرديات المؤامرة، باعتبارها، كما يراهن هذا المقال، الأقرب للاستدعاء الراهن في محيطنا لنظريات المؤامرة، على الرغم من عدم وجود دولة توتاليتارية بالمعنى الصحيح الآن أو سابقاً.
النزعة المؤامراتية
في كتابها الذي خصصته المفكرة السياسية الألمانية-الأميركية “حنه أرندت” للظاهرة التوتاليتارية كما اكتملت في الدولة النازية والدولة الستالينية “أسس التوتاليتارية”، أفردت حنه فصلاً خاصّاً بالحملة الدعائية التوتاليتارية الموجهة نحو الجماهير.
لم تكن هذه الدراسة الأولى التي تتكلم عن ظاهرة “الجماهير” في الفكر السياسي الحديث، والتي حملت الفاشيات والتوتاليتاريات الأوروبية والروسية التي فجّرت الحربين العالميتين، كانت دراسة المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون “علم نفس الجماهير” ذات فرادة بتحويلها للمرة الأولى مجال علم النفس إلى الجمهور بعدما اقتصر على الفرد، وبتنبيهه إلى خطورة صعود ظاهرة الجمهور حين يتماهى الفرد مع وعي الجماعة وينحو نحو الرؤى الأبسط والأكثر عدوانية وهوياتية وراديكالية، أو كما عبّر عنها من منطلق يميني بورجوازي “إن دخول الطبقات الشعبية في الحياة السياسية وتحولها التدريجي إلى طبقات قائدة يمثل إحدى أكثر الخصائص الأكثر بروزاً لعصرنا”، واعتبر أن هذه الجماهير برابرة العصر أو مغوله.
إلا أن تعميمات لوبون وإطلاقاته الأشبه بالحِكَم وأحكام القيمة دفعت فرويد إلى الردّ عليه لتحكيم المنهجية في كتاب صغير منحه الاسم ذاته “علم نفس الجماهير”، وتوسع النقاش حتى غدا تخصّصاً في ذاته، عدا عن اشتراك مدرسة التحليل النفسي بدءاً من فرويد (الذي كتب في ما بعد بنبرة متعبة ويائسة كتباً مثل “الحب والحرب والحضارة والموت” و “قلق في الحضارة”) وإيريك فروم (في كتابه المميز والملهم الذي لا يملّ من التفسير “الخوف من الحرية”) وكارل يونغ (في كتابه الأشبه بموعظة أخلاقية-نفسية لا تخلو من شعور مرير ومعلن بالذنب “النازية في ضوء علم النفس”) وغيرهم في محاولة فهم الخراب الذي عمّ العالم، وغدت ظاهرة صعود التوتاليتاريات والفاشيات مفتاح التحوّلات والمراجعات الكبرى في الفكر الغربي، في محاولة لفهم ماذا حصل.
بعد سيرورة صراع طويلة مع المجتمع والتاريخ، من انهيار الطبقات وتسييس المجال العالم، بحيث أصبح “السياسي” بحسب تعبير ونظرية كارل شميت هو مجال الفعل الوحيد، وذابت الهويات الجزئية وتراجعت أحلام الرفاه، كانت التربة الخصبة لاستنبات “الجمهور” الذي سيعلّق نفسه بالدولة كذات وحيدة، بعدما لم تترك له الدولة أي ذات أخرى.
وكانت العلموية النبوية (بحسب تعبير حنه) أو قيام الحداثة على أن كل شيء قابل للتفسير (كما يقول اشعيا برلين في “جذور الرومانتيكية”)، والفلسفة التاريخانية التي تتيح حتميّات عابرة للزمن، قد وفّرت شرعية أكبر لقيام سرديات كبرى تقدمها الدولة باعتبارها قطعيات يقوم على أساسها التاريخ، وإن انقلبت على جذرها العلموي في الحالتين النازية والشيوعية لصالح خطب الزعيم، الإله الأرضي.
يزدهر الطلب على المؤامرات في المنظومات الشمولية هذه، حيث العوامل الأحادية والتقسيمات الثنائية للعالم المحفوف بالأعداء حيث الحزب/ العرق/ الهوية التي غدتْ ذاتنا الوحيدة مهددة بحتمة قدرية، ومنتصرة بحتمية قدرية، حينها لا يغيّب الواقع وحسب، وإنما يكون ثمة “احتقار عميق للوقائع في حد ذاتها” فالأيديولوجيا (التي تبدأ كمشروع سياسي ثم تغدو رؤية للكون) هي الواقع الوحيد الذي نفسّر العالم من خلال أهدافه أو انتصاراته أو هزائمه.
يمكن أن نقول بلغة التحليل النفسي إنه كان ثمة حالة من البارانويا العامة، متلازمة سردية المظلومية والبطولة التي يحصّن بها الإنسان والمنظومات غير المستقرة نفسه، ولكن حين تتحوّل إلى حالة من العصاب العام، والدموي.
ولو خيّرت هذا الجمهور، كما تقول حنه، في أي موضوع “فسيكون المقياس الأول في انتقائه مقدار السر الذي فيه، بل السر في ذاته، ولا يعود لمصدر السر الآنف أية أهمية”.
علينا ألّا نبالغ كثيراً في لوم جمهور التوتاليتاريات والفاشيات هذا، والذي تحوّل بمجموعه إلى إنسان مستباح (بحسب تعبير جورجو أغامبين) للعنف النقي والقوة العارية، والذي انسحبت من أمامه كل منظومات الاستقرار والتفسير من الدين إلى القانون إلى رفاهه الخاص، إلى الثورات التي علّق عليها أمل العدالة يوماً، أو العلم الذي لم يفسّر له معنى الوجود ولامعيارية الفوضى.
وفي اقتباس مفسّر من حنه، نورده على الرغم من طوله، فقد كان “فرار الجماهير من أمام الواقع يشكل إدانة للعالم، حيث تجبر على العيش دون أن تقدر على الاستمرار، طالما أن المصادفة باتت هي قانونه الأسمى، وطالما أن الكائنات البشرية تحتاج إلى تحويل الظروف الفوضوية والعارضة بصورة ثابتة إلى ترسيمة من التناسق النسبي، كانت انتفاضة الجماهير ضد واقعية الحس المشترك، ضد كل معقوليات العالم نتيجة تذرّرها، وفقدانها موقعها الاجتماعي، وكانت الجماهير قد فقدت في الآن نفسه كل مجال العلاقات الجماعية هذا الذي يهب الحس المشترك معناه.
وكانت مبادرة الحملة الدعائية التوتاليتارية الآنفة تقضي بمواجهة التنامي الفوضوي والتصدي لاعتباطية الانحطاط التام، أو الخضوع لأيديولوجية ذات تماسك بالغ القساوة ومتوهم بغرابة لا تقاس، على الأرجح تختار الجماهير التوجه الثاني، مستعدةً لأن تدفع ثمنه غالياً من تضحيات الأفراد فيها، ليس لأن الجماهير منحرفة أو غبية، بل لأن هذا الانفلات يوفر لها حداً أدنى من احترام ذاتها، وسط الكارثة العميمة!”.
يشير إيميل دوركهايم في دراسته المشهورة عن الانتحار إلى نوع من الانتحار سماه “الانتحار الفوضوي” حيث تتعالى نسب القلق في أزمنة الفوضى وغياب الأنظمة المعيارية والقانونية ما يرتبط بزيادة في نسب الانتحار، على صعيد آخر يلاحظ أوليفييه روا أن ثمة نزعة عدمية متصاعدة في الأجيال الأحدث من الجهاديين، حيث تندر العمليات الاستشهادية في الجيل القديم، بين الانتحار الخاصة والعدمية الذاتية، كان ثمة خيار آخر هو الانتحار العام والعدمية السياسية الشاملة.
الإسهام المسيحي – الأوروبي في سرديات المؤامرة
إضافة إلى العوامل السابقة في ظهور النزعة المؤامراتية حديثاً، إلا أن جوهر المؤامرة المتعلّق بالسرّ يشجّع أكثر على ازدهارها مع الحركات السرية السياسية منها والدينية، أو مع العقائد الصوفية التي تنحو لتكون أكثر باطنية ومجازية، خاصة المتأثرة بالديانات المشرقية وانشغالها بأسرار الأعداد والعناصر والأشكال، سواء من قبل أهل الأسرار أنفسهم، أو من قبل خصومهم (هذا التلازم ما بين العقائد الباطنية والمؤامرات السياسية نجده واضحاً لدى د.بهاء الأمير مثلاً، وهو من أشهر ممثّلي بارانويا المؤامرة المعاصرين لدينا).
قامت هيبة الكهنوت الكنسي وسلطته على حفظ الأسرار وتراتبية المعرفة اللاهوتية، والذي يظهر أكثر مع العقائد الباطنية في المسيحية نفسها أو الديانات المشرقية بعامة، عدا عن ارتباط هذه السلطة الرمزية بسلطة دنيوية في حقبة القرون الوسطى، حيث ازدهرت المؤامرات والجمعيات السرية، وما زالت مادة خصبة للأدب المتكئ على تتبعها حتى اليوم، ولعلّ دان براون كان أشهر مثال على هذا الاتكاء للمؤامرات في السرد الأدبي، وإن كان “أمبرتو إيكو” ذا القامة الأدبية الأعلى في ذلك، سواء في رائعته “اسم الوردة” أو في “مقبرة براغ”.
ويتقاطع مع النزعة المؤامراتية وسرديات المؤامرة (ولدى الجمهور نفسه)، كهروب نحو السر والحتميات الخفية التي تحرّك الإنسان في التاريخ، ازدهار “قصص” العقائد المهدوية والهرمجدون، والتعامل مع التاريخ كتمثيل للإرادة الإلهية الجبرية المحضة لا للفعل البشري (تكلمت عن هذا في مقالي السابق “في بؤس أدلجة التاريخ”)، كآليات لتفسير التاريخ أو انتظار نهايته، وهذا يتقاطع مع التاريخانية كفلسفة في التاريخ شهدت ازدهاراً في حقبة ما قبل التوتاليتاريات ومهّدت لحتميّات مختلفة أكثر علمانيةً.
وعلى الرغم من “النزعة الإسلامية” الظاهرة في كثير ممن يتداولون نظريات المؤامرة كتفسير للواقع السياسي في عالمنا العربي اليوم، بعدما كان القوميون واليساريون العرب (قبل اضمحلالهم إلا ندرة منهم) روّادها الكبار، إلا أن سرديات المؤامرة الأكثر تداولاً الآن ليست ذات منشأ عربي أو إسلامي أصيل، بقدر ما تم استيرادها من التاريخ الغربي حيث تعود جذور هذه السرديات البعيدة إلى القرون الوسطى الأوروبية، لكن تطوّر نظرية “مؤامرة يهودية عالمية” وانتشار “المعاداة للسامية” مع صعود القوميات الأوروبية يعود إلى نهايات القرن الثامن عشر، حين بدت العلاقة بين رجال المال اليهود والدولة الوطنية في أوروبا أكثر وضوحاً، وتم تفسير الثورة الفرنسية نفسها بأنها من صناعة مؤامرة ماسونية، ولكن صعود هذه المؤامرة إلى النقاش والانقسام السياسي تجلّى في قضية دريفوس في فرنسا (1894م- 1906م)، حين اتهم النقيب ألفريد دريفوس (فرنسي الجنسية يهودي الدين) بتسريب معلومات عسكرية إلى ألمانيا، واحتاج الأمر 12 عاماً لتبرئته، انقسم خلالها المجتمع السياسي والثقافي في فرنسا بسبب القضية ونفاش معاداة السامية وعلمانية الدولة.. إلخ.
بينما جذور سرديات المؤامرة القريبة والأكثر تأثيراً وشمولية فتعود إلى حقبة صعود التوتاليتاريات والفاشيات في الغرب، ولعلّ أكثرها اعتماداً على المؤامرة في حملتها الدعائية كانت دولة الرايخ الثالث بزعامة الفوهرر أدولف هتلر، والاتحاد السوفييتي في حقبته الستالينية.
الإسهام التوتاليتاري في سرديات المؤامرة
تميّز حنه أرندت بين المؤامرات الستالينية والنازية وإن كانت تنطلق من جذور وأهداف الحملة الدعائية التوتاليتارية نفسها، فبينما اعتمد النازيون الألمان على مؤامرات موجودة مسبقاً في الوعي الغربي، مثل القول بالمؤامرة اليهودية العالمية أو الفرقة الماسونية أو بروتوكولات حكماء صهيون، فقد كان البلاشفة أكثر إبداعاً وتجديداً في أدبيات المؤامرة، ومنذ عام 1935م، كما تقول حنه، راحت تتوالى المؤامرات العالمية الشديدة الغموض والسرية، الواحدة تلو الأخرى، في الحملة الدعائية البلشفية: إذ جرتْ بادئ الأمر مؤامرة التروتسكيين، ثم مؤامرة العائلات المائتين، وأخيراً حدثت الدسائس الإمبريالية (أي الكونية) الشنيعة التي جعلت تقترفها الاستخبارات السرية البريطانية أو الأميركية.
تمكن المجازفة والمصادرة بتأويل ذلك بأن سردية المؤامرة بتعريفها كممارسة أدبية منحازة للخيال والسرّ، كانت روسيا (وفرنسا كذلك حيث ازدهرت هذه السرديات أيضاً) بميراثها الأدبي الضخم في القصة والسرد، وحروبها الأهلية الداخلية الطويلة، أكثر قدرة على تجديدها وإبداعها وتغليفها بالأحداث والأسرار من الألمان الذين تنقلوا ما بين الرومانتيكية الشعرية والمنهجية الفلسفية، ولم تتطور لديهم مدرسة في القص والسرد تضارع الأدب الروسي بأعلامه الكبار من غوغول وتشيخوف وتولستوي وديستويفكي، وحتى في هدف الحركة التوتاليتارية المعلن، فقد كان هدف الشيوعية الحالم بعالم تتلاشى فيه الطبقات وتسود العدالة، أكثر شاعرية وإنسانية من الحلم النازي العلموي بتصفية الأعراق وسيادة العرق الآري ذي المواصفات الخَلْقية الأفضل.
وحتى في سرديات المؤامرات اليهودية التي اتكأ عليها النازيون في دعايتهم وفي سياسة الإبادة، فقد كان للروسيين الفضل الأكبر في بنائها، منذ ما قبل الثورة البلشفية حتى.
ظهرت “بروتوكولات حكماء صهيون” للمرة الأولى، كما يشير د.عبد الوهاب المسيري في كتابه “البروتوكولات واليهودية والصهيونية” عام 1905م ملحقاً لكتاب من تأليف سيرجي نيلوس وهو موظف كان يعمل في الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، وله اهتمامات صوفية باطنية متطرفة، وكان عنوان هذا الكتاب “العظيم في الحقير والمسيح الدجال كإمكانية سياسية وشيكة”، ويقول فيه إن الإمبراطورية القيصرية الروسية هي وحدها القادرة على إنقاذ العالم من حكم المسيح الدجال، وادعى نيلوس أنه تسلم نسخة هذا الكتاب من سيدة فرنسية سرقتها من أحد أقطاب الماسونية في فرنسا.
وحتى لو ظهرت هذه النسخة من العدم وفي العدم، فإن مضمونها يقدم أدلة شبه صريحة على أنها ألّفت بأمر من القيصر الروسي أو بوحي من الدفاع عن مملكته، لا من مؤتمر سري يدوّن فيه اليهود أهدافهم في بازل عام 1897م كما تدعي البروتوكولات.
تقول إحدى البروتوكولات:
“ونحن على الدوام نتبنّى الشيوعية ونحتضنها متظاهرين بأننا نساعد العمال طوعاً لمبدأ الأخوة والمصلحة العامة للإنسانية، وهذا ما تبشر به الماسونية الاجتماعية”.
وتقول بروتوكولات أخرى:
“من فوائد ترويج الفردية، أن العامة سينظرون إلى الملوك نظرتهم إلى أبناء الفناء العاديين!”، لأنه “بغير الاستبداد المطلق لا يمكن أن تقوم حضارة، لأن الحضارة لا يمكن أن تروج وتزدهر إلا تحت رعاية الحاكم كائناً من كان” ولأنه “ما من أحد يستطيع أن يستعمل فكرة الحرية استعمالاً سديداً”.
هذه البروتوكولات كما يقول المسيري “تضفي على اليهود صفات الإله المتحكم في كل شيء، القادر علي كل شيء، والذي يعز من يشاء ويذل من يشاء، فهل يعقل أن نصدق أن هناك من البشر العاديين من يتسمون بصفات الله عز وجل حتى لو ادعى حكيم حكماء صهيون ذلك؟ ألا يتناقض هذا مع فكرة الإيمان بالله نفسها؟”.
ولكن على الرغم من هذا الابتذال المفضوح هنا، إلا أن هذه البروتوكولات وما ترتبط به من مؤامرة ماسونية يهودية عالمية، كانت علامة عصر كامل انتشرت فيه نزعات المعاداة للسامية والهروب نحو الأسرار وبارانويا المؤامرة، والحاجة لتهديد عالمي دائم تسوّغ قيام مشاريع توسّعية عالمية، ولا مقارنة على الإطلاق بين الانتشار الهائل لهذه البروتوكولات في روسيا والبلاد الأوروبية منذ صدورها وحتى ما بعد نصف قرن، وما بين تداولها وتأثيرها المحدود في عالمنا العربي اليوم.
لقد كان التأثير الأخطر للبروتوكولات ليس إثارة كراهية اليهود، والذي كان موجوداً أساساً، وإنما كما تلاحظ “حنه” بذكاء، فإن صيت البروتوكولات وانتشارها الواسع كانا قائمين على الإعجاب بها والتعلّم منها أكثر من قيامهما على الكراهية، “لقد استخدمت النازية بروتوكولات حكماء صهيون بمثابة نموذج تحتذيه في سبيل تنظيم الجماهير المستقبلي وذلك لبلوغ الإمبراطورية العالمية المنشودة”، ولم يقرأ هتلر كتاباً كما قرأ البروتوكولات، حتى إن حنه تنقل عن “هاينريش هملر” الرجل الثاني في إمبراطورية النازيين وقائد الشرطة السرية أن هتلر كان يحفظ البروتوكلات عن ظهر قلب، هملر نفسه الذي قال “إننا نعزو فضل اكتشافنا فنّ الحكم إلى اليهود”!.
إن التفوق النازي في استخدام المؤامرة اليهودية هو كما تقول حنه إن معاداة السامية لم تعد شأناً يختلف فيه، “وإنما باتت الاهتمام الحميم لدى كل فرد في وجوده الشخصي.. كان من نباهة الحملة الدعائية للنازية أن حوّلت العداء للسامية إلى مبدأ ذي تعريف ذاتي”، ولم يكن ذلك بآليات الدعاية وحدها، وإنما بآليات التنظيم، حيث كان يُطلب من كلّ ألماني أن يثبت نقاء نسبه/ عرقه الآري وخلوّه من أي علاقة باليهود حتى عام 1750م كي يُقبل للتوظيف في الدولة، وكلّما زادت نسبة هذا النقاء أمكن للألماني أن يترقّى في أجهزة الدولة، أو أن يزداد فخراً بنقائه العرقي، أو، وهذا أقلهما أهمية بالنسبة لمؤمن بالدعاية التوتاليتارية، أن يحتمي من حملات التصفية والتخوين.
كان هذا المبدأ الأخير مما استلهمته الحملة المكارثية في أميركا الخمسينيات ضد المؤامرة الشيوعية (التي تريد هدم الديانة المسيحية كما روّج لها جوزيف مكارثي)، حيث لم يعد مطلوباً من الإنسان أن يثبت عدم انتمائه إلى حزب شيوعي، وإنما أنه لم يكن شيوعيّاً في يوم ما.
يدلّنا الدرس النازي خاصة، وأوروبا الفاشيات والتوتاليتاريات بعامة، على مدى ما يمكن لسرديات المؤامرة أن تصنع، حيث لا تقترن الفعالية بالصدقية، وعلى تأثير المؤامرة الحقيقي لا بنجاح أهدافها وإنما بصناعة أعدائها، المؤمنين بها، على شاكلتها، تصبح المؤامرة الكونية هي الإله المقلوب، ولكنه يبقى إلهاً، وطالما حاول الإنسان أن يبلغ آلهته التي صنعها، وأن يبلعها.
الإسهام الإسلامي في سرديات المؤامرة
لم يكن النزوع التآمري واضحاً في التجربة الإسلامية الأولى، بحكم ضعف سلطة الدولة، ولا احتكارية سلطة العلماء لأسرار الديانة، أو تفسير النصّ المقدّس، وإقرار الإسلام بالتأثير البشري في التاريخ بحسب نظرية الكسب الأشعرية أو الآيات الصريحة بنسبة التغيير للإنسان. إلا أن ذلك الأمر تغيّر مع تطوير الصوفية لنظام الأسرار، ونشأة العقائد الباطنية المشتقة من الإسلام والمتأثرة بالديانات والفلسفات المشرقية الإشراقية، وتنامي الصراع السياسي-المذهبي في الدولة وعليها.
ولعلّ أولى نظريات المؤامرة التي ظهرتْ تاريخيّاً وأشهرها هي مؤامرة “عبدالله بن سبأ” لإحداث الفتنة بين الصحابة، وبعيداً عن الجدل التاريخي حول الشخصية (بين مثبت لوجودها ونافٍ)، فإن الملاحظ أن المتأخرين كانوا أكثر حرصاً على وجود هذه المؤامرة وقوّتها وتغلغها، أي على تعريفها كمؤامرة (يمكن مراجعة كتاب “العواصم من القواصم” لابن العربي المالكي بتحقيق محب الدين الخطيب)، والتي اقترنتْ بالصراع السياسي-المذهبي بين الشيعة والسنة، حيث يتم تأكيد أن عبدالله بن سبأ كان يهوديّاً وأسلم وتشيّع ودعا لعبادة عليّ وقال بتناسخ الأرواح وفتن بين الصحابة (هذا قبل تبلور التشيّع كعقيدة وقبل ذيوع الديانات التناسخية أو الحلولية أو القائلة برجعة الأرواح).
بينما الروايات الأقدم عن “الفتنة” على لسان أطرافها كانت تحيل إلى اختلافات مرئية في الاجتهاد الفقهي أو الانتماءات العشائرية والاجتماعية (أهل الشام وأهل العراق) أو الصراع المحض على السلطة، أكثر مما تتكلّم عن أن ثمة مؤامرة من طرفٍ سرّي جرّتنا إلى الحرب، وكانت تستخدم مفردة “الفتنة” كإحالة إلى الفوضى المعيارية التي عاشها أطراف الحرب أنفسهم، وشعورهم بالقلق أو الشرعية النسبية في موقفهم من أول اقتتال داخلي بين المسلمين.
وعلى الرغم من اتخاذ المؤامرة اسم التحذير من الفتنة أحياناً في كتابات الفقهاء أو خطب السياسيين، إلا أن الفتنة في التنظير الفقهي السياسي (الأحكام السلطانية وكتب الأحكام الشرعية ومرايا الأمراء.. إلخ) كانت تحيل في الغالب إلى احتمال اجتماعي-سياسي بانهيار الأطر التنظيمية والسلطة المرجعية في حال الصراعات غير المحسوبة/ المحسومة على السلطة، ما ينبئ بالفوضى المرعبة، وتعطل تطبيق الشريعة.
وعلى الرغم من أنه من الشائع بحكم الطابع الديني الذي اتخذته الدولة والمجتمع في التجربة الإسلامية التاريخية، أن يتخذ كل صراع سياسي صبغة دينية، ما يعطي شرعية موضوعية لاتهام المتآمرين على الحكم بكونهم انطلقوا من أسباب مذهبية، خاصة في ما يتعلق بالشيعة واليهود، إلا أن هذا التفسير سيتضخّم كثيراً في ما بعد المشروع الصهيوني والثورة الإسلامية الإيرانية، حيث تتم استعادة هذه الثنائية في المزاوجة ما بين التشيّع واليهودية في نظريات المؤامرة الشائعة، وسيتمّ تأويل التاريخ بأثر رجعي لمطابقته معها، بينما نلاحظ أنه قبل الثورة الإسلامية الإيرانية فقد كان التركيز على المؤامرة اليهودية والماسونية كافياً، حيث كانت تهمة محمد جمال الأفغاني أنه ماسوني ورسول للمستعمرات كافية من دون استدعاء تشيّعه، أما اتهام الوزراء اليهود بإسقاط الدول الأندلسية فهو يغفل مؤامرات الحكام المسلمين أنفسهم بين بعضهم، والحقيقة الواضحة بأن اليهود كانوا يخشون من سيطرة المسيحيين على الأندلس أكثر من المسلمين أنفسهم، بالنظر إلى شعارات محاكم التفتيش وسلوكها في المناطق التي استولتْ عليها.
وكانت العقائد الباطنية التي نشأت كجمعيّات سرية تربةً خصبة لتكوين سرديات مؤامرة غنية، سواءٌ من قبلها أو من قبل خصومها الذين يتخذونها موضوعاً للمؤامرة، وإن كان من طوّر هذه المؤامرات كسرديات أسرار أدبية هم المستشرقون أكثر من المسلمين أنفسهم، والإسماعيليون (الحشاشون) هم المثال الأشهر على ذلك، والذين كوّن منهم المستشرقون (رواية آلموت لفلاديمير بارتول مثلاً)، وتتم استعادة هذه الفرق حالياً لتغذية نظريات المؤامرة العابرة للزمن والمكان (أيديولوجيا المؤامرات من المستوى الثالث كما قسّمنا في البداية)، بينما ركّز المؤرخون المسلمون على هذا التهديد الديني والسياسي لمذهب الاستقرار (السنّي)، كمؤامرات أكثر وضوحاً وأقلّ تجديداً لنفسها مع الأجيال، نلاحظ مثلاً أنه حتى الحلاج الذي لم يتح له تكوين جماعة سياسية-عسكرية تحمل مشروعه، إلا أنه تم ترويج وجود مؤامرة يجهّز لها في قلعته حيث يخدع الناس بألاعيب يصوّرها لهم كمعجزات، كما نقرأ ذلك لدى القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة، لكننا لا نتكلم هنا عن سردية مؤامرة تظهر كأيديولوجيا، بقدر ما هي مؤامرة سياسية مؤقتة ومحتملة تاريخيّاً.
بينما المؤامرات العابرة للتاريخ، وذات المصدر الديني كنبوءات أو حروب في نهاية العالم، فتعود كذلك في الغالب إلى أصول يهودية-مسيحية مثل الهرمجدون، أو تحاول تقليد نبوءات نوستراداموس القروسطية.
بينما نظريات المؤامرة الأكثر ذيوعاً (الفرقة الماسونية، حكومة العالم الخفية، المخابرات البريطانية.. إلخ) هي ذاتها الموروثة من اليسار الروسي والنازيين الألمان الذين ورثوا أكثرها من التراث المسيحي-الأوروبي، أو من غربيين معاصرين يستشهد لهم لمنح قيمة إثباتية ورمزية أعلى للمؤامرة (كما هو الكتاب ذائع الصيت “أحجار على رقعة الشطرنج” لمؤلفه الكندي وليام غاي كار)، أو من الديكتاتوريات العربية التي طالما تعلّلت بالمؤامرات لقمع شعوبها، حيث توفر المؤامرة لدى اقترانها بالسلطة هيمنة الوهم على الواقع بالعنف المسلّح، لا بالعنف الرمزي وحسب.
وفي الأدب العربي الحديث، لم يوجد أدب حقيقي يعتمد على سرديّات المؤامرة التي تنتمي لتراثنا وثقافتنا، أو يطوّرها ويجدّد بناءها، وهنا يمكن أن نتكلّم بحقّ عن فقر الإسهام الإسلامي وضحالته في سرديات المؤامرة.
ختام
إن الاعتقاد بفرقة سرية هي المحرك الرئيس للتاريخ، هو من أقدم العقائد البشرية حيال الواقع والتاريخ بعامة، ويسهم الواقع الاجتماعي السياسي الذي يفكك بنى الاستقرار والأمان الرمزي والمادي للإنسان، في تنمية النزعة المؤامراتية بين الجماهير الفاقدة للمعنى والمتعبة من فوضى الواقع وعدوانيته، حيث توفّر منظومة تفسير متماسكة وملجأ من فقدان القدرة على التأثير، حيث يمكن لكشف المؤامرة التي تمنعنا من الإنجاز أن يكون أهمّ من الإنجاز نفسه.
وكما يسهم واقع الديكتاتوريات التي تبلغ أوجها في المنظومات التوتاليتارية، ومراحل الفشل والهزيمة، في تنامي مساحة السرّ للفعل والقول خارج رقابة السلطة المهيمنة، أو في اللجوء إلى السر للتفسير بعد فشل المرئي في تقديم حلّ لاعتباطية العالم، وحيث تزدهر الجمعيات السرية والعقائد المهدوية (المهدي المنتظر/ الماشيح/ السفياني/ الأعور الدجال.. إلخ)، فإن العقائد الباطنية التي تعتمد على حجب المعارف وتراتبية الأسرار، تشجع على تنمية النزعة المؤامراتية، وعلى خلق وتعقيد سرديات المؤامرة الخاصة بها.
كما أن الثقافات التي امتلكت ميزة أكبر في السرد والقصة في تراثها الأدبي، أقدر على تقديم سرديات مؤامرة أغنى وأكثر تعقيداً وتشويقاً وقدرة على الانتشار، كما نلاحظ بالنسبة لروسيا وفرنسا وإيطاليا.
في عالم ما بعد 2011م، حيث الثوار الباقون بالسلاح على حلمهم في سورية وليبيا هم استثناء اليأس العميم، وحيث انتهتْ ثورات ودُفنتْ أخرى في رماد ثوّارها، وملّت أو تعبت أو هاجرت شعوب من الحلم الصعب إلى النسيان الميسّر، ومن رهان الغد إلى أمان الماضي. هنا في جيل الثورات المثقل بالدم والحروب والهزائم والأحلام المجهضة، والشعارات التي غدت سجوناً، والهتافات التي حوّلتها الثورات المضادة إلى مراثٍ للرفاق الراحلين، ولافتات الحرية التي ارتدتْ السواد وشنقتْ حامليها، وبين المقابر الجماعية وخيم المشرّدين وقوارب الباحثين عن اللجوء..، تجد نظرية المؤامرة تربتها الأخصب كملجأ متماسك وآمن للهروب من إلحاح الذنب والمسؤولية عن التاريخ وفوضى الواقع العظيمة، وهنا أيضاً توشك أن تولد جماهير وتوتاليتاريات أخرى بحثاً عن مسار انتقام، أيّ انتقام كان.
إن مسؤوليتنا كمثقفين ومنتمين للثورات العربية، لن تتمثل يوماً في التصالح مع ترويج الأوهام، ولو كانت مخدّراً مريحاً للمتعبين، وإنما أن نستمر في محاولة الفهم والمحاكمة العقلانية للواقع الموضوعي وتحليل أسباب قصورنا وأخطائنا الذاتية، مهما رفضَنا هذا الواقع أو خان أحلامَنا العادلة والأخلاقية بعالم لا يسود فيه الشرّ ولا يتحكّم بأقداره الطغاة.
المصدر : العربي الجديد