أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في اليوم الأول لشن عملية عسكرية في الأراضي السورية والعراقية بتاريخ 24/7/2015، : “أن تركيا لن تسمح لأحد أن يهدد الأمن القومي التركي”،
و أكد أردوغان عزم بلاده التحرك بشكل فعال ضد التنظيمات الإرهابية، قائلًا: “إن تنظيم الدولة “داعش”، وتنظيم حزب العمال الكردستاني “بي كي كي”، وتنظيم حزب تحرير الشعب الثوري كلها تنظيمات إرهابية سنتخذ كافة التدابير اللازمة تجاهها”، وفي نفس اليوم أوضح أردوغان:” بأن القوات الامنية في تركيا بدأت بعملية داخلية شملت 13 ولاية اعتقل فيها نحو 300 مشتبه بانتمائهم للتنظيمات المعنية”.
هذه التطورات فرضتها معادلات الحرب الدفاعية على أساس حماية الأمن القومي التركي، بحماية أمنه الداخلي ومنع التفجيرات الارهابية ان تطال أمن الشعب التركي بكل قومياته وإثنياته واديانه ومذاهبه وطوائفه، فالدولة التركية هي دولة الشعب التركي، والحكومة هي حكومة الشعب التركي بغض النظر عن الحزب أو الأحزاب الحاكمة في السلطة أو المعارضة، والجيش التركي وكافة قواته الأمنية والجندرمة والمخابرات الوطنية هي مؤسسات الدولة التركية، وعليها واجب حماية أمن الوطن، ومنع العابثين من ان ينالوا من امنه وسلامة مواطنية، كما أن من مسؤوليات الأمن القومي التركي حماية الحدود الخارجية للجمهورية التركية من أي اعتداء مهما كان مصدره.
لقد حذرت الحكومة التركية كثيراً في السنوات الماضية من الأعمال الارهابية التي قد تطال أراضيها الداخلية أو الحدودية، وقامت بإجراءات أمنية كانت تهدف منها الحيلولة دون تورط تركيا بأعمال عسكرية خارج حدودها، ومنها عملية نقل رفات سليمان شاه جد الأسرة العثمانية من منطقة حلب إلى أشمه على الحدود التركية، لأنها كانت لا تريد القيام بأي عمل عسكري خارج حدودها إطلاقاً، بدليل أن آخر مرة حركت الدولة التركية جيشها في عمليات عسكرية خارج حدودها كان عام 1973، عندما قامت بعملية إنقاذ للشعب التركي القبرصي في الجزء الشمالي من جزيرة قبرص، فمنذ ذلك الحين لم يتحرك الجيش التركي خارج حدوده إطلاقاً، وما جرى من عمليات اشتباك مع جيش الأسد وميليشياته في السنوات الماضية كانت عمليات قتالية فردية لحماية الأراضي التركية وفق قواعد الاشتباك التي وضعها مجلس الأمن القومي التركي في ذلك الوقت بسبب تطورات الوضع الأمني والعسكري في سوريا والحدود السورية التركية.
إن تركيا قد اعلنت ومنذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة أنها تعمل وفق استراتيجية جديدة هي استراتيجية صفر مشاكل، وهذه الاستراتيجية لم ولن يتم التراجع عنها إطلاقاً، ولكن هذه الاستراتيجية لا تتم من طرف واحد وإنما بحسب سياسة الدول الأخرى التي توافقها أو تعارضها في هذه السياسة، فتركيا وهي تدعو وتعمل وفق هذه الاستراتيجية إلى السلام مع كافة جيرانها، فإنها لن تتنازل عن مبدأ الدفاع عن النفس، وفق قاعدة مقدسة، “فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم”، فمن يعتدي على تركيا بصفعة خد واحدة لن تدير له خدها الثاني، وإنما سوف تصفعه على باثنتين، الأولى بدل الصفعة الأولى، والثانية حتى يتعظ فلا يعود لغيرها هو ولا غيره، فتركيا ستبقى دولة سلام، ولن تدخل في حرب مع أحد إلا في حالتين فقط، وهما حرب الدفاع عن نفسها أولاً، وحرب إنقاذ لأي شعب يتوجب على تركيا انقاذه لأسباب إنسانية، كما فعلت في قبرص عام 1973، عندما قتل القبارصة الروم بدعم مباشر من اليونان الشعب التركي القبرصي.
في الحرب الدفاعية الأولى عن أمنها الداخلي أو حدودها الخارجية لن تنتظر تركيا موافقة أحد لحماية نفسها من أي عمل عدواني على شعبها واراضيها الوطنية، وسوف تهاجم كل من يعتدي عليها بالمثل وأشد، وأما حرب الانقاذ الإنسانية فإن تركيا ترى ان من الحكمة ان تقنع المجتمع الدولي بواجبها قبل قيامها بهذا العمل العسكري الذي تقوم به لأسباب إنسانية، لأنها تأمل وتتوقع أن من الوجب على الدول الكبرى ومنظمات المجتمع الدولي وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة أن تشاركها في الواجب الإنساني أولاً، وحتى لا يتم تفسير قتالها العسكري على أنه عدوان او تدخل في شؤون الآخرين، فإذا لم يقتنع المجتمع الدولي أو الدول الكبرى أمريكا واوروبا بهذا النوع من المسؤولية، فلإن تركيا تبقى على أُهبة الاستعداد للتدخل العسكري وإن لم تقم به أو أخرت القيام به إلى ظروف دولية مواتية، لأنها حريصة أن تكون قناعة المجتمع الدولي بهذا الواجب الإنساني وبضرورة معالجته عسكريا مثل قناعتها هي، مهما تأخر ذلك، والعمليات العسكرية التي قامت بها تركيا في سوريا والعراق في اليومين الماضيين لا تخرج عن هذين الشرطين، فقد وجهت تركيا ضربات لتنظيم داعش في سوريا وتنظيم حزب العمال الكردستاني في العراق، لأن كلا التنظيمين الارهابيين قد قاموا بالاعتداء على الأمن القومي التركي الداخلي والخارجي معاً، فضلاً عن جرائم الحرب ضد الإنسانية التي تقوم بها هذه التنظيمات الإرهابية، فتنظيم داعش قام أكثر من مرة بمهاجمة أهداف تركية داخل تركيا وخارجها، كان آخرها تفجير سوروج، الذي استهدف به تجمعا شبابياً لمنظمات كردية يسارية، كانت تستعد للتحرك نحو عين العرب (كوباني) في سوريا، فقد كان هذا الاستهداف ضد تركيا ومواطنيها وعلى الأراضي التركية، واودى بحياة نحو ثلاثين تركيا وجرح نحو مائة آخرين لا يزال بعضهم في المستشفيات التركية.
وقبل أن يتم توجيه هذه الضربات العسكرية في سوريا والعراق جرى لقاءات عسكرية مع مبعوث الرئيس الأمريكي جون الن إلى العراق وهو المختص بملف مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا “داعش”، وقد جرى التوصل معه ومع وفد عسكري امريكي كبير إلى اتفاق عسكري وصفه البعض بالصفقة، جرى تأكيده بالاتصال الهاتفي بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأمريكي أوباما، وصفه أردوغان بقوله:” أكدنا مع أوباما صمودنا في الحرب ضد تنظيم الدولة “داعش”، وتنظيم بي كي كي الإرهابيين”، وحجة الرئيس أردوغان هي بحسب قوله أيضاً هو :” عمل تنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي الانفصالي (بي كي كي) على استغلال رغبتنا في تتويج عملية المصالحة الوطنية، ينبغي أن لا يعيش مواطنونا في بيئة خوف، لقد كان اتخاذ خطوات مختلفة في سوريا أمراً هاما”.
هذا الموقف الرئاسي اكدته قرارات القمة الأمنية المنعقدة في العاصمة أنقرة برئاسة رئيس الوزراء “أحمد داود أوغلو” وعدد من رؤساء الأجهزة الأمنية في البلاد أمس، وذلك بضرورة “تطبيق تدابير أمنية إضافة عاجلة للحفاظ على الأمن القومي التركي”، وكذلك كانت حجة الحكومة هي المسؤولية الدفاعية عن أمن المواطن والوطن، فأوضح البيان الصادر عن رئاسة الوزراء “وفي هذا السياق، تم في القمة إعادة النظر في التدابير الأمنية السارية، بعد مقتل العديد من مواطنينا المدنيين، إضافة لاستشهاد عدد من العناصر الأمنية في البلاد، جراء استهدافهم بهجمات خائنة، حيث تم تقرير مواصلة تطبيق كافة التدابير الأمنية للمحافظة على النظام العام والأمن القومي التركي، وضرورة إتخاذ المزيد من التدابير اللازمة بالسرعة القصوى في سبيل ذلك”، ولم يكتف بيان القمة الأمنية بتبرير العمليات العسكرية السابقة بل أشار إلى استعدادات تركيا للعمليات القادمة التي تهدد الأمن التركي، فقد صرح نائب رئيس الوزراء التركي “بولنت أرينج” بأنّ القوات المسلحة التركية تحضر نظامًا أمنيًا صلبًا لحماية الحدود بين تركيا وسوريا من تنظيم الدولة (داعش)، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) ومنظمات إرهابية شبيهة”.
إن متابعة الموقف السياسي والعسكري التركي من احداث العراق طوالل اثني عشر سنة الماضية، منذ احتلال أمريكا للعراق أولاً، ومتابعته منذ اندلاع الثورة السورية ثانيا، وما اعقبها من مآس إنسانية يتحمل مسؤولياتها نظام الأسد وحلفه الارهابي الطائفي، وكذلك المتابع للموقف التركي من أحداث اليمن وعاصفة الحزم ثالثاً، ان المتابع لذلك وغيرها من الأحداث المؤسفة والمؤلمة في المنطقة والتي تسببت بها ايران وإسرائيل وداعش يدرك ان الحكومة التركية كانت حريصة على منع تدهور الأمور إلى العنف والقتال، ولكن الارهاب الذي مارسته هذه الدول اعقبه إرهاب مقابل، وهو ما حذرت منه السياسة التركية، ولكنها بقيت بعيدة عن المشاركة فيه عسكرياً، حتى التحالف الدولي الذي أنشأته أمريكا لمحاربة تنظيم الدولة “داعش” رفضت تركيا أن تدخل في عملياته العسكرية إلا بشرط أن يكون طريقاً إلى الأمن واستقرار الأوضاع السياسية في سوريا والعراق، ولذلك فإن اضطرارها للعمليات العسكرية الأخيرة هي رسالة لكل الأطراف التي تسعى لتوريط تركيا بهذه الفتن والحروب الأهلية بانها لن تتورط بهذه الحروب المشبوهة، وستبقى سياستها السياسية تدعو إلى السلم والسلام، وأما من يعتدي عليها فلن يجد إلا الرد الحاسم والحازم والقاسي، وستبقى العمليات العسكرية التركية الداخلية والخارجية هي مجرد عمليات جراحية لاستئصال الأورام الإرهابية مهما كان مصدرها وموقعها.
وطن اف ام