مقالات

صبحي حديدي – المسرح السوري: حكاية حداثة واستبداد

«التمثيل المسرحي السياسي السوري: من حرب الأيام الستة إلى الانتفاضة السورية»، 2015، كتاب إدوارد زيتر، أستاذ تاريخ المسرح في «مدرسة تيش للفنون»، جامعة نيويورك؛ قد يكون العمل الأفضل، في اللغة الإنكليزية على الأقلّ، حول المسرح السوري المعاصر، على امتداد نصف قرن من عمر «الحركة التصحيحية»، نظام الأسد الأب والأسد الوريث. وإلى جانب معرفته الواسعة بإشكالية المسرح والشرق، أو الاستشراق في المسرح الفكتوري تحديداً؛ ذهب زيتر إلى سوريا مراراً، وحاور الكثير من المسرحيين، كتّاباً ومخرجين وممثّلين، ودرّس في المعهد العالي للفنون المسرحية خلال 1994 ـ 1995. وفصول كتابه تتناول قضايا ملموسة، بعضها عريض واسع النطاق، مثل شخصية الشهيد، والحرب، وفلسطين، وعلاقات التراث والتاريخ، والتعذيب.

فرضية الكتاب الأبرز هي أنّ السوريين تطلعوا إلى حريات مدنية أوسع، وناهضوا الاستبداد، قبل وقت طويل من انطلاق الانتفاضة الشعبية في آذار (مارس) 2011؛ ولم يكن نصف عقد من المسرح السوري، في خيرة أعماله تحديداً، إلا سمة لذلك النزوع نحو الحرية. فالمسرح تناول القضايا الحساسة، وأدان الظلم الاجتماعي، وعبّر عن الحاجة إلى التغيير، وأدان الاعتقال السياسي والتعذيب؛ وهذا، من جانب آخر، هو ذريعة زيتر في إصدار هذا الكتاب، في هذه الحقبة الزمنية تحديداً: «إنني ألاحظ أنّ حكاية المسرح السوري ـ وهي حكاية تنهض على أفعال المقاومة الإبداعية في وجه التسلط الاستبدادي ـ توفّر رؤية لقراءة ستراتيجيات الانتفاضة»، يكتب زيتر.

وبالطبع، لا تفوته الإشارة إلى أنّ المسرح السوري ارتبط، منذ تباشيره الأولى، بقِيَم التقدّم ضدّ الأفكار الرجعية؛ ولم تكن المدرسة المسرحية الرائدة التي أسسها أبو خليل القباني إلا التمهيد المبكّر لذلك الارتباط، المرتكز أيضاً على مزج أصيل بين الفنون الشعبية كالرقص والغناء، وتقنيات مسرح حديث لم يتردد القباني في اقتباسها وتطبيقها. وبمعزل عن المسارح المدعومة من الدولة، كانت الفرق المسرحية الخاصة اللاحقة قد شهدت، بدورها، انتعاش النصّ السياسي؛ حتى إذا اتخذ صفة «سكتشات» ساخرة تعتمد النقد الخفيف، أو حتى اللاذع، الذي لا يمسّ روح سلطة الاستبداد في كلّ حال: تجارب دريد لحام/ عمر حجو، ولحام/ نهاد قلعي/ محمد الماغوط. لكنّ مسرح سعد الله ونوس يحظى باهتمام زيتر الأوسع، إذ يعتبره «الشخصية المهيمنة»، فتتعاقب الإشارات إليه على امتداد الفصول الخمسة، كما يُكرّس له فصلا خاصّا بعنوان «التراث والتاريخ».

مدهش، إلى هذا، أنّ زيتر، في غمرة تثمينه العالي لمسرح ونوس خلال السبعينـــيات والثمانينــــيات؛ يُغفل التوقف عند القيمة التأسيسية الكبرى لمسرح ونوس المبكّر، في أواسط الستينيات، حين كان وعيه منشطراً بين أقصيَين: العبث الوجودي، كما عكسه مسرح ألبير كامو؛ والموقع الكفاحي للمثقف وللنصّ الأدبي، كما بشّر به مسرح بيتر فايس أوّلاً وبرتولت بريخت ثانياً. آنذاك، أيضاً، كانت العواصف التي أطلقها جان جينيه وأنتوان آرتو في فرنسا تبلغ أسماع ونوس، وهو يتنقل بين القاهرة ودمشق وباريس؛ مثلما كانت تقلقه الأسئلة التي طرحها مسرح العبث عند توفيق الحكيم، ومسرح التغريبة الملحمية عند ألفريد فرج وجلال خوري.

وبهذا فقد كان الموضوع الوجودي والفلسفي أكثر ضغطاً من الموضوع السياسي، الأمر الذي جعل ونوس يكتب النصّ المسرحي لكي يُقرأ أولاً، أو لكي يُقرأ قبل أن يُؤدّى على الخشبة، في تقديري.

تلك هي السمة الأولى التي طبعت أسلوبيته في مسرحياته الأبكر («ميدوزا تحدّق في الحياة»، «مأساة بائع الدبس الفقير»، و»الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا»)؛ فكان السرد الروائي يطغى على الحوار، وكانت اللغة تميل إلى الإغراق في وصف الحالات الشعورية الكثيفة، فذكّرت بتقنيات تيار الوعي في روايات مارسل بروست وجيمس جويس، أكثر من تذكيرها بالمسرح.

وفي الشريط الوثائقي «وهنالك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء»، الذي أنجزه المخرج السينمائي السوري الراحل عمر أميرالاي سنة 1997، يطلق ونوس عبارة وجيزة صاعقة، تضيف المزيد من الرهبة على ذلك الحوار الثقيل الجارح الذي يتسيّد الشريط بأسره: «فلسطين قتلتني»! الأرجح أنّ المقصود بالقتل، هنا، هو ذلك الانخراط في القضية الفلسطينية، الذي اتخذ وجهة قصوى لمعنى الالتزام والانحياز، فقتل رفاه الكتابة المتخففة من أعباء التاريخ، واستبعد الفنّ الذي يترفّع عن الآني واليومي والطارئ، وأسمع الكاتب وضجيج الأرض ونداء البشر.

وهذه سمة جدلية لامعة، كانت ستكمل سجال زيتر، الصائب، حول ثنائية الحداثة والاستبداد في حكاية المسرح السوري المعاصر.

المصدر: القدس العربي 

زر الذهاب إلى الأعلى