لعلّ إحدى أروع اللقطات وأجملها في المسلسل الكوميدي الذي قدّمه لنا الممثل السعودي ناصر القصبي “سيلفي”، تلك التي يتشاجر فيها اثنان؛ سُنّي وشيعي، على الطائرة، ما يستدعي حجزهما في مطار أجنبي والتحقيق معهما.
وعندما يأمر المحقق باستدعاء الحسين بن علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، يوضّحان له بأنّ الحسين ومعاوية توفيا منذ أكثر من 1400 عام. فيأمر عندئذ بتحويل الاثنين (السُنّي والشيعي) إلى مستشفى الأمراض العقلية!
بالنتيجة، فإنّ منطقة الشرق الأوسط بأسرها دخلت في معمعة “هستيريا جماعية”، تقوم على الصراع الطائفي والديني والعرقي، وأصبحت بمثابة مسرح الفوضى الذي يغصّ بالأمراض العقلية والنفسية الموروثة والطارئة!
والنتيجة الوحيدة لهذه الفوضى تتمثل في شيء واحد: تدمير الذات؛ ليس على صعيد الدماء والقتل وملايين المهجّرين والتفجيرات التي طاولت المساجد والمدارس والأسواق والسياحة ورجال الدين، بل ما هو أخطر وأكثر سوءا بكثير؛ تدمير الأخلاق والثقافة والروح والسلم الأهلي والشعور الإنساني تجاه الآخرين من أبناء الوطن، تدمير قيم المواطنة والقانون، وتحطيم الدول والمجتمعات وتمزيقها!
اليوم، هناك مئات الآلاف من الأطفال الصغار المنخرطين بالتنظيمات الطائفية المتبادلة، وفقا لتقارير الأمم المتحدة. فالحوثيون، والقاعدة، والحشد الشعبي، وحزب الله، والأكثر من هؤلاء تنظيم “داعش”؛ جميعهم لم يكتفوا بالواقع المحطّم، بل يريدون تحطيم المستقبل، عبر إدماج الأجيال الجديدة ليس في مشروعات مستقبلية خاصة بالتعليم وبناء القدرات وتطوير الذات والثقافة، بل في الحروب الأهلية والصراعات، وتعلّم العمليات الانتحارية والتكفير المتبادل!
تصوّروا معي المستقبل والأجيال الجديدة الحالية التي تربت ونشأت على وقع الحروب الأهلية الراهنة؛ فكّروا بملايين الأطفال السوريين المهجّرين، ممن فقدوا آباءهم، وعشرات الآلاف من الأطفال المهجّرين من الأنبار وترفض بغداد إدخالهم، والأطفال الشيعة والأكراد الذين يواجهون تنظيم “داعش” بوصفه يمثّل لديهم السُنّة… ماذا نتوقع أن يحمل هؤلاء الأطفال مستقبلا من مشاعر وأيديولوجيات وأفكار؟! هل سنجدهم، مثلا، مبدعين في الموسيقي أو العلوم والرياضيات أو في الفن والفلسفة والأدب، أو حتى في العلوم الدينية والتنوير؟! سنجد أنفسنا أمام جيل أخطر بكثير من الأجيال الحالية المتصارعة؛ جيل مُسح دماغه مبكّرا، معبأ طائفيا ونفسيا من الصغر. هو جيل يحمل دمارا أكبر للمنطقة وللمستقبل، إن لم يكن هناك مسار بديل سريع!
هل ثمّة بديل؟! بالطبع هناك بديل، وهو واضح أمام الجميع. فالحوار الإقليمي اليوم بين العرب والأتراك والإيرانيين هو السبيل الوحيد للتفاهم، والخروج من النفق الخطير الراهن، في تلبّس المصالح السياسية والاقتصادية بغطاء طائفي ديني يقضي على الأخضر واليابس، لأنّ البديل لن ينتصر فيه أحد؛ إذ لا يوجد هناك رجال جيّدون في هذا الصراع، بل الكل سيكون سيئا وخاسرا، قاتلا أو مقتولا!
ما يحدث محرقة للمنطقة والأجيال والمستقبل والموارد والإنسان والقيم والمجتمعات؛ ما يحدث جريمة نرتكبها بحق أنفسنا. ومن يسعّرون في نار هذه الحرب بذريعة شيطنة الآخر، أيّا كان، ويجهدون أنفسهم في تقسيم الناس بين مسلم وكافر، عميل أميركي أو تابع صفوي، أو ممانعة واعتدال، عليهم التوقف عن خداع الذات. فالاتفاق الإيراني-الأميركي كشف أنّ البند الوحيد الثابت هو الحرب الداخلية، أما الموقف من القوى الخارجية فيتغير ويتبدل تبعا للمصالح المتغيرة. فأمس أنا عدو للشيطان الأكبر، واليوم في حضنه؛ واليوم حرب “داعش” والأتراك، فيما بالأمس كانت المصالح المتبادلة أكبر!
كنت أقرأ قبل أيام بعض المعلومات عن مرض الهستيريا. قارنوا ما يحدث في المنطقة بأعراض هذا المرض وسماته وتعريفه، ستجدون أنّه بمثابة الوباء الذي يغزو مجتمعاتنا اليوم، تحت جنح الطائفية!
المصدر : الغد الأردنية