تتشكل على امتداد بعض العواصم العربية المأزومة، من بيروت إلى القاهرة وبغداد وتونس، أقلية متشابهة إلى حد بعيد، لا يجمعها انتماء طائفي، أو عرقي أو مناطقي على ما باتت تختصر الأقليات أخيراً، بل يشد عصبها انحياز أفرادها لقضايا الشأن العام، في وقت تخندقت فيه الأخيرة في محاصصات فئوية ضيقة، وولاءات سياسية تغذي آليات فساد وزبائنية وتعود فتتغذى منها، لتبدو أي مسألة محقة تستفيد منها العامة، كأنها سلاح موجه من طرف ضد آخر.
ومن أبرز سمات تلك الأقلية أنها مدينية بالدرجة الأولى بمعنى أنها نشأت وتكونت في المدن من دون أن تكون بالضرورة من أبنائها الأصيلين، وهي شريحة شابة عموماً من مهنيين متنوعين اجتماعياً وثقافياً، اعتنقوا انتماءهم هذا كأفراد لا جماعات، وعن خيار ذاتي لا عن وراثة عائلية، يدورون في فلك الطبقة الوسطى أو ما بقي منها، وتراهم يكافحون اليوم ذكوراً وإناثاً للحفاظ على وضعياتهم فيها.
إنهم هؤلاء الذين نراهم يتداعون اليوم إلى التظاهر في بغداد ضد الفساد الحكومي ونتائجه المباشرة على التيار الكهربائي الغائب كلياً، وسط درجات حرارة تقارب الخمسين، وهم سبق أن تظاهروا من أجل حقوق الصحافيين والإعلاميين، ومثلهم نزلوا إلى السراي الحكومي في بيروت يطالبون بحل أزمة النفايات، وكانوا قبلها تجمعوا من أجل رفض التمديد لمجلس النواب واستملاك الشاطئ العام وغيرها من القضايا التي لا تبدو مهمة أو طارئة مقارنة بالهواجس الأمنية، لكنها تعني المواطنين العاديين بما يكفي لتكون قضيتهم. وفي القاهرة، حيث هم أقلية الأقلية، ما زالت تسمع أصواتهم معترضة على المحاكمات العسكرية وفساد القضاء، والاختراعات «الكفتاوية» وغيرها من منتجات «الثورة المضادة».
وكأي أقلية، يحاط هؤلاء بالتهميش والإقصاء والاستخفاف بهم وبجهودهم، فلا يسمع صوتهم إلا في لحظات غضب تجعلهم يتماهون مع ما يناهضون. وليس ذلك لتبرئتهم من تجاوزات وأعمال شغب كثيرة ترتكب في تظاهرات ومسيرات مطلبية تحيدها عن وجهتها، لكن الأساس يبقى أن هناك شباناً وشابات، نساء ورجالاً ما زالوا يجدون في أنفسهم طاقة أو ربما بصيص أمل أو يأس يدفعهم إلى الشوارع مع يقين مسبق لدى الآخرين المستفيدين من تحقيق المطالب فيما لو تحققت، أنهم مجرد قنابل صوتية.
وصحيح أن الانتماءات والميول السياسية لبعض هؤلاء تجعلهم أحياناً أداة سهلة في يد تنظيمات و «قيادات» تستثمر فيهم وتستغل نشاطهم، لكن افتراض أن السياسة لوثة أو تهمة، على المجتمعات أن تبقى بمنأى عنها لتحافظ على «نقائها»، في غير محله. فهو يبرر الوقوع في فخ «المجتمع المدني» وجمعياته من جهة، ويسهل على الأنظمة وأجهزتها شيطنة الناشطين من جهة أخرى. تلك القيم الطوباوية أحياناً أو المبالغة في الحياد، التي يروج لها ما بات يعرف بـ «المجتمع المدني» والتعفف (المزعوم) عن الرغبة في الوصول إلى السلطة تسد فراغاً سياسياً وتلبي حاجة، لكنها تساهم أيضاً في إجهاض أي هيكلية سياسية جدية أو نشوء نواة حياة حزبية أو نقابية فاعلة، هي أكثر ما تحتاجه بلدان «الثورات». فما يجري اليوم، هو استعاضة واضحة بالجمعيات الأهلية عن الأحزاب والنقابات التي يفترض أن يكون سعيها إلى السلطة وتطبيق برامجها، مطلباً محقاً ومشروعاً.
وفي المقابل، تعتمد أجهزة السلطة ووسائلها الإعلامية ودوائرها الاجتماعية تشويه سمعة تلك الأقلية وشيطنتها. فهي إما مرتهنة للخارج وإما خلايا «إخوانية» نائمة، وإما «سرايا مقاومة» (فصيل فلسطيني لبناني مسلح مؤيد لحزب الله)، وهي مهما تقلبت بها الأحوال تنال كلها من هيبة الدولة وتوهن نفسية الأمة.
ومع التضييق والملاحقة وكل ما يتعرض له أي شخص فاعل في الفضاء العام، لا عجب أن يتقلص عدد هؤلاء ويلتفتون على وسائل التواصل الاجتماعي، فيجعلون من الصفحات الشخصية على «فايسبوك» أو «تويتر» منصة لإطلاق المواقف والشعارات فتعود الدائرة المفرغة لتضيق أكثر، وتدور حول ذاتها بلا كثير جدوى.
والحال أن تلك الأقليات العابرة للحدود والمتشابهة إلى حد بعيد، لا يكفيها الغضب الشعبي لتزيد عددها في الشارع أو ترفع وزنها لدى السياسيين، خصوصاً بعد مآلات الثورات الأخيرة. فما تطالب به تلك المجموعات، سواء إيجاد حلول بيئية وصحية لأزمة نفايات هنا أو محاسبة مفسدين في سرقة المال العام هناك، بات أقرب إلى التطلع النخبوي منه إلى المطلب الشعبي.
فالقيم والحقوق التي تتمسك بها هذه الشريحة وتدعو إليها وإلى تطبيقها تبدو خارج الزمن، وفي غربة حقيقية عن المجتمعات التي تعاني من غيابها وتتدبر شؤونها عبر نظام الزبائنية السياسية أو الطائفية أو المناطقية.
أما تلك الأقلية الآيلة إلى الانقراض، فلا تملك إلا أن تتمسك ببقايا الدولة الحديثة ومفهومها، لأن لا طائفة تحميها ولا عشيرة ولا حتى حزب، وهي إذ ذاك لا تحتاج تطمينات ومسكنات، بل حلولاً جذرية ومستدامة ما عادت تجدها إلا في دوائر الهجرة والجوازات.
المصدر : الحياة