إذا ألقينا نظرة سريعة على الوضع في سوريا والعراق، رُبّما يصيبنا ذلك باليأس والقنوط. إلا أنّني كأستاذ للتاريخ ودبلوماسي وسياسي أعرف أن التاريخ يتدفق في لقطات متتابعة تبدو منطقية عندما يُنظر إليها بأكملها.
ينبغي أن نأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار ونحن نعالج التحديات التي تواجهنا جنوب تركيا، والتي تبدو كأنّها لا تُقهر.
تواجه تركيا في الجانب الجنوبي من حدودها عددًا من التهديدات الخطيرة على أمنها القومي. في سوريا مئات الآلاف من القتلى وملايين المشردين – منهم حوالي مليوني لاجئ في تركيا – في حين يتنافس النظام غير الشرعي في دمشق مع تنظيم داعش الإرهابي على من يُبدي قدرًا أكبر من البربرية. يقصف أحدهما السكان المدنيين، ويستخدم الأسلحة الكيميائية في انتهاك صارخ للقانون الدولي، فيما ينهب الآخر ويغتصب ويستعبد شعبًا بريئًا ليس له ملاذ آخر. ووسط كل هذا يستغل طرف ثالث، مثل تنظيم “بي كي كي” (حزب العمال الكردستاني) ضباب الحرب ليتّخذ من الإرهاب وسيلة قد تمكّنه من تحقيق أهدافه.
إجمالًا، يبدو أنّ حقبة من الفوضى وغياب السلطة تولد من جهة الجنوب. لكن وكما تعلّمنا من تاريخنا فإنّ اللحظات التي تسبق الفجر هي الأكثر ظُلمة دائمًا. ولم تنفد خياراتنا لمعالجة حالة انهيار النّظام التي نشهدها.
عملت تركيا في الفترة الماضية، مُعتمدة على قرون من الخبرة في إدارة الدولة، على وضع الدبلوماسية في صميم إدارة علاقاتها الدولية. ساعدت هذه التجربة الجمهورية التركية في تحويل عداوات سابقة إلى صداقات وتحالفات جديدة.
لكنّنا ونحن نعيش في هذه المنطقة، ندرك تمامًا أنّ الدبلوماسية ليست الحل الوحيد لكل المشاكل. وطالما وُجد الخير، فإن هناك شر ينبغي مواجهته إذا اقتضت الحاجة.
نحن في تركيا نعرف الإرهاب جيدًا، فقد عانينا منه كثيرًا ودفعنا ثمنًا باهظًا. لم يتضاءل عزمُنا، وإنّنا مصمّمون على مواجهة التهديد الإرهابي في كل مكان وزمان.
كانت تركيا ولا زالت ملتزمة باللقتال ضد داعش منذ أن أطلّت بوجهها القبيح. ولم يكن على أي دولة أخرى عضو في حلف شمال الأطلسي “الناتو” تشترك في حدود مع داعش، إلا أنّ تركيا كعضو في الحلف يواجه هذا التهديد، سخّرت إمكانياتها وقدراتها لمواجهة هذه المنظمة الإرهابية. والآن، في الوقت الذي تزداد فيه حدّة التهديد من قبل داعش، فإنّنا وبتوافق تام مع القانون الدولي سنخطو خطوة أساسية إلى الأمام.
التفاهم الذي توصلنا إليه مع الولايات المتحدة على أعلى مستوى سيمكّننا من العمل معًا ومع حلفائنا الآخرين لزيادة فعالية القتال ضد الإرهابيين. وإنّنا بتطير حدودنا من داعش، لن نحدّ من تمدّد كيان إرهابي وحشي وتدميره وحسب، إلا أنّنا سنوفر كذلك حبلًا للنجاة للمعارضة السورية المعتدلة التي هي الفاعل الوحيد على الأرض الذي يقاتل داعش ونظام الأسد.
وقد توصّلنا إلى هذه الاتفاقية مع الولايات المتحدة لأنّنا نؤمن إيمانًا راسخًا بأنّنا إذا تحرّكنا بانسجام كما فعلنا سابقًا في مرات عديدة، فإنّنا سنوقف مدّ التطرف في المنطقة ونُمهّد الطريق باتجاه الاستقرار.
داعش هي العدو المشترك لكلينا، ونحن نقاتلها معًا بكل الوسائل التي نمتلكها حتى تُهزم جيوشها وأيديولوجيتها بشكل كامل.
لكنّنا يجب أن لا نُغفِل الطرف الذي أوجد الظروف التي أدّت إلى صعود داعش، والذي يتواطؤ معها عندما تتقاطع مصالح مع مصالحها، فلا يُمكن إنقاذ سوريا حتى يتخلى النظام في دمشق عن السلطة. إنّ نظام الأسد هو المسؤول عن المذبحة والفوضى التي أدّت إلى ظهور داعش، وهذه الأرض الخصبة للراديكالية لا يُمكن القضاء عليها حتى يغادر بشار الأسد ودائرة المقربين إليه .
التغيير المبني على مبادئ بيان جنيف أمرٌ ممكن وواجب. وهذا هو الطريق الوحيد الذي يُمكن من خلاله تجنّب مزيد من إراقة الدماء على نطاق واسع. وينبغي أن يتحمل المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مسؤوليتهم الكاملة لتحقيق ذلك.
أما بالنسبة للعراق التي تعاني هي ذاتُها بشكل كبير من إرهاب داعش، فإنّ السياسات الشاملة المدعومة بالأطر القانونية اللازمة لكسب الفئات المحرومة من الشعب، مقرونة بخطوات هادفة لتقديم فدرالية فعّالة مبنيّة على تقاسُم السّلطة والعائدات هي السبيل الوحيد للمضي إلى الأمام.
وبالنّظر إلى أنّ حزب العمال الكردستاني “بي كي كي” – مصنّف بأنّه منظمة إرهابية لدى الولايات المتحدة الأمريكية – قد لا يكون مشابهًا إلا أنّه يلجأ إلى الإرهاب مرة أخرى على أمل استغلال الوضع في سوريا لتقوية موقفه في أعين الغرب. وقد بدأنا عملية تاريخية لإنهاء عقود من العنف من خلال مزيد من الديمقراطية، إلا أنّ هذه العملية لا يُمكن أن تصل إلى أوجها حتى يلقي “بي كي كي” السلاح ويُنهي هجماته العنيفة ويُخرج عناصره المسلحة من تركيا.
يجب أن تعرف كل المنظمات الإرهابية التي تستهدف تركيا أنّ تصرّفاتها لن تمرّ دون عقاب وأنّنا سنرُدّ على تصرّفاتهم بكل حزم، لأنّ لدينا كل الحقّ لفعل ذلك وفقًا للقانون الدولي. هذا لا يعني أنّ عملية السّعي إلى حلّ قد انتهت، بل على العكس، إنّني مصرّ على المضي قدمًا بأسرع ما أمكنني، إلى نتيجة منطقية إلى أن تتشكل حكومة جديدة في تركيا. ولكن حتّى يتحقّق ذلك، ينبغي أن يتوقف إرهاب بي كي كي، ويجب أن يسحب عناصره المسلحة من تركيا.
تغيّرت تركيا طوال 13 سنة ماضية في عدة نواحي، كلّها نحو الأفضل. بشعبها المزدهر بشبابه، واقتصادها القوي وديمقراطيتها الكاملة المدعومة بكل الضوابط والرقابة المطلوبة، بما في ذلك الصّحافة المشاكسة والمجتممع المدني، تركيا هي قصّة نجاح. الجغرافيا قدرٌ بالتأكيد، وسنظل مع كل حلفائنا وشركائنا على أتمّ استعداد للوقوف في وجه التهديدات النّابعة من منطقتنا. وكما علّمنا تاريخنا، سنظلّ نبحث دائمًا عن وسائل سلميّة لحل الصراعات التي قد تنشب. ولكن عندما نتعرض للتهديد، سنتحرك دون أدنى تحفّظ، بكلّ ما أمكننا حتّى يُهزم عدُوّنا.
المصدر : واشنطن بوست ، ترجمة ترك برس