في مراجعة شاملة للسلوك الأميركي، تاريخياً، حيال سورية، نتبين سبب إحجام الأميركيين عن نُصرة الشعب السوري الذي انتفض للإطاحة بالدكتاتورية. ولما بدا هذا الاستنكاف محرجاً للأميركيين، ثم دخل إلى مسرح الصراع متطرفون إسلامويون، شاركوا هم في صنعه أصلاً، وشارك معهم النظامان، العراقي والسوري؛ تمثلت واشنطن موقف المساندة، لكنها مساندة لا تزال قاتلة، وضررها أكثر من نفعها، لأنها، أولاً، لذرّ الرماد في العيون، وتساعد على تأجيج الصراع من دون حسمه، وتُلقي بظلال من الشك على المعارضة الديموقراطية، في الأوساط الشعبية العربية، التي ترسخت قناعتها بأن الأميركيين قوة إمبريالية، مناوئة للطموحات الوطنية والقومية، ومساندة للعربدة الإسرائيلية.
لم تكن سورية، الوطن والمجتمع، حتى قبل استقلالها، ضئيلة الشأن في ناظر واشنطن. لذا، فإن فتور الإدارة الأميركية اليوم تجاه حق السوريين في الحرية ينم عن تدبير مُحكم، يستفيد من تعقيدات الصراع، للإجهاز على مجتمع سورية وعمرانه ووعيه التاريخي ومستقبله المأمول. فسورية العربية، بموقعها وأهلها ودورها المفترض، معلومة لدى الأميركيين الذين افتتحوا علاقة دبلوماسية معها، بالصيغة المتاحة عندما افتتحوا قنصلية في حلب (عام 1835 في ظل الدولة العثمانية). وبعد الاستقلال، افتتح الأميركيون سريعاً، قنصليتهم في دمشق (سبتمبر/أيلول 1946)، وبعد ثلاث سنوات اكتمل فريقهم الدبلوماسي، ليبدأ التدخل الأميركي المحموم في شؤون سورية.
ففي عام 1949، دبروا من وراء الستار انقلاب حسني الزعيم، بعد أن قرروا مسبقاً الطعن في انتخابات 1947 البرلمانية، وهذا ما كتبه أحد مؤرخي العلاقات الأميركية مع الشرق الأوسط (آدم كارتيس)، وهم الذين كانوا سبب إلهاب سعير الانقلابات في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات. وعندما استعادت البلاد النظام البرلماني، ربح الأميركيون كراهية الشعب السوري لهم، ليس لأن أسرار تدخلاتهم انكشفت للناس وحسب، وإنما كذلك بسبب دعمهم إسرائيل، وهذا ما ساعد الحكومة المنتخبة على الاتجاه شرقاً إلى الاتحاد السوفييتي. وفي 1957، دبروا انقلاباً في سورية، في عملية استخبارية للمخابرات الأميركية (C I A) للإطاحة بأديب الشيشكلي، الذي انقلب على الزعيم، وكان للعملية اسمٌ مُشفّر (عملية وابين Operation Wappen)، لكن الانقلاب فشل، وطردت دمشق السفير الأميركي، جيمس مُوسي، واستدعت سفيرها، فارس زين الدين. بعدئذٍ، وبسبب تفرده في الحكم، لم تشفع للشيشكلي مناوءته السياسة الأميركية، ولا تقربه من جمال عبد الناصر، وعداؤه الشديد للمشروع الصهيوني، فقد هيمن على البلاد بقبضة حديدية، وأظهر نزعة طائفية بغيضة، عندما بطش بالمواطنين الدروز وقصف السويداء بالطائرات. لكن فترته ساعدت على تشبع المجتمع السوري بفكرة التساند مع مصر عبد الناصر. ولما أطيح به، واستعيدت الحياة الديموقراطية، وصعد شكري القوتلي إلى الرئاسة مرة أخرى (عام 1955)، تم إبرام اتفاق الوحدة مع مصر (فبراير/شباط 1958).
استمر توتر العلاقات الأميركية السورية، وانتقالها من سيئ إلى أسوأ، لكن حافظ الأسد انتهز فرصة غزو العراق الكويت (أغسطس/آب 1990)، لكي يرمم العلاقة مع واشنطن، والالتحاق بالجيوش التي حُشدت لطرد العراق من الكويت، والتشارك معهم، بعدئذٍ، في ترتيبات الوضع اللبناني، على قاعدة أن تتفهم أميركا حاجة سورية للهيمنة على وسط لبنان وشماليه، وحاجة الأميركيين والإسرائيليين إلى تهدئة الوضع في الجنوب، وعدم وصول الفلسطينيين إلى الحدود. وفي ذلك الإطار، قبل الأسد دعوة أميركية لحضور ما سُمي مؤتمر السلام في مدريد، ثم الدخول في مفاوضات مع إسرائيل. وفي ذلك الإطار أيضاً، تولت سورية تأمين إطلاق سراح الرهائن الغربيين المحتجزين في لبنان، ورفع القيود المفروضة على اليهود السوريين، وكانت ذروة ذلك المسار، اللقاء بين حافظ الأسد وبيل كلينتون في جنيف (مارس/آذار 2000).
بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 لم يتلكأ الأسد الابن في التعاون الأمني مع الأميركيين. وكان أهم ما ساعد فيه النظام السوري تنبيه الأميركيين من هجمات محتملة لتنظيم القاعدة، وفتح الأراضي السورية لهم، لكي يمارسوا التعذيب في التحقيقات، مع من يقبضون عليهم، بحكم أن القوانين الأميركية تمنع التعذيب على الأراضي الأميركية، تماماً مثلما يفعل الأميركيون في قواعدهم، وفي أقطار دول هزيلة. واستمرت العلاقات في تطورها المستتر والعلني، إلى أن وقع اغتيال رئيس الوزرء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري (فبراير/شباط 2005)، فاستدعت الولايات المتحدة سفيرها في واشنطن، وتلبدت الأجواء بين الطرفين. وفي ذلك السياق، حرصت أميركا على قرص أذن النظام، كلما ارتكب مخالفة معها، مثلما فعلت في عام 2008، عندما نفذت قيادة عمليات القوة الخاصة المشتركة، التابعة لــ CIA ، عملية عسكرية في بلدة بوكمال السورية، القريبة من القائم على الحدود مع العراق، التي اعتبرها الأميركيون نقطة عبور المقاتلين العراقيين لتنفيذ عملياتهم ضد القوات الأميركية.
وبعد تفجر الغضب الشعبي في سورية وبدء الانتفاضة (مارس/آذار 2011) استذكر الأميركيون صلابة الأسدين، الأب والابن، في حفظ تعهداتهما، فصرحت هيلاري كلينون أن بشار الأسد “رجل إصلاحي”، وعليه التجاوب مع مطالب المتظاهرين. ومع تمادي الحكم السوري في البطش بالمتظاهرين، بدأ في واشنطن الحديث الذي لا بد منه، وإلا فقدت واشنطن جوهر خطابها في السياسة الدولية، وأعرب الرئيس باراك أوباما بـ “ألم” عن اعتقاده بضرورة تنحي الأسد، واتجه إلى الضغط لفرض عقوبات اقتصادية من مجلس الأمن، وعندما أحبط الروس والصينيون مشروع القرار، عبّرت المندوبة الأميركية، سوزان رايس، عن سخطها. لكن مسار العلاقة الأميركية السورية ظل متأثراً بالعلاقات الأميركية الإيرانية. أرادت واشنطن إطالة أمد الصراع من دون حسم، لإرهاق إيران واستنزافها، وصولاً إلى حل يحبط المسعى الإيراني لتصنيع سلاح نووي. ولتحقيق هذا الهدف، أظهرت رضاها على دعم آخرين، بالقدر المحدود، للمقاتلين السوريين من كل الأطياف.
ومع اشتداد ساعد السلفية الجهادية، ازدادت رغبة الأميركيين في تأجيج التطاحن على صعيد المناهضين للنظام، وهؤلاء مع النظام نفسه، ولم تأبه واشنطن لعمليات تدمير سورية، ولا لقتل الناس بالجملة، بالصواريخ الباليستية والبراميل المتفجرة. فلو أن واردات السلاح إلى النظام كانت ضد إسرائيل؛ لقطعت أميركا خطوط مواصلاتها. وجاء الاتفاق النووي ليضع الأمور بين احتمالين: أن تنفذ إيران الاتفاق بحذافيره، على النحو الذي يضمن أمن إسرائيل، رغم أنف حرسها الثوري، ويضمن بقاء بشار الأسد، وتربح الفرصة في إدارة ملفات العراق وسورية ولبنان، أو أن تواجه احتمالات عمل عسكري يعصف بها وبنظام الأسد. وبالنسبة للأخير، يرى الأميركيون والإسرائيليون فيه طرفاً ضامناً لكبح جماح الشعب السوري، وإدامة صمت الجبهة. ثم إن حرصه على ديمومة بقائه يجعله صارماً في تعهداته للأميركيين!
المصدر : العربي الجديد