منذ أحداث الحادي عشر من أيلول 2001م، وبزوغ سياسات “الحرب على الإرهاب” على يد الإمبرياليّة الأمريكيّة صراحةً، أو على يد حلفائها العرب، داخليًّا وخارجيًّا، والمسلمون، سواء أكانوا عربًا يعيشون في نطاق الدّول العربيّة أو يعيشون في أوروبّا وأمريكا، مُطالبون دائمًا بالاعتذار عن “العنف الإسلاميّ” و”ثقافة الموت” و”الإرهاب الدينيّ” الذي ينخرُ في تراثهم. كان يُنظر إلى “القاعدة” على أنّها التمثّل الحقيقيّ للإرهاب الإسلاميّ في أشدّ صوره من قِبل المعلّقين، عربًا وغير عرب؛ ولهذا طُولب المسلمون بأن يقبلوا بإعادة استكشاف الإسلام على قاعدة أنّه “نسخ” عديدة، وليس إسلامًا واحدًا، وعليهم أن يزيحوا “النسخة القاعديّة” منه، باعتبار أنّها “نسخة” متطرّفة، وإرهابيّة، وأن يندرجوا هم في صلب “نسخة” أكثر تسامحًا، “نسخة” تقبل باندماجهم ضمن النّظام العالميّ، وضمن المجتمعات الليبراليّة الحديثة.
ولم تكن داعش، من هذا المنطلق، إلّا مكمّلة لـ”العنف الإسلاميّ” المهول، هذا العنف الذي ينظر إليه أغلب المعلّقين على أنّه جوهر ثابت في الإسلام، وإن لم يكن في الإسلام فهو في إحدى القراءات الموجودة للإسلام، ومن أبرز مرّوجي هذه القراءة هم الوهّابيّون الذين أصّلوا للممارسات العنيفة، وللقراءات “المتشدّدة” للإسلام. لذلك، فلا عجب أن يكون “الإصلاح الدينيّ” هو ديدن المعلّقين الليبراليين والأنظمة الفاشلة العربيّة منذ الحادي عشر من سبتمتبر وحتى بزوغ “داعش”.
ودعونا ننظرُ قليلًا في فكرة “الإصلاح الدينيّ” للتخلّص من الحركات الجهاديّة العنيفة، ومن داعش، وحتى نُظهر الإسلام “الحقيقيّ”، برأي المعلّقين. ما الذي سوف ينتجُ “الإصلاح الدينيّ” بالضبط؟ أيّ شيءٍ يُطلب من إصلاح دينيّ في ظلّ منطقة تُجهَض ثوراتها الربيعيّة بيد الأنظمة الرجعيّة العربيّة والعسكريّة؟ فالإصلاح الدينيّ ليس حلًّا سياسيًّا أصلًا، إنّه خطّة من قبل الأنظمة المستبدّة العربيّة لدرء الشبهة عنها أمام الإمبرياليّة الغربيّة لا أكثر. وإلّا، فإنّ إشكالنا الإسلاميّ كلّه هو إشكال سياسيّ، وضدّ مَن يقومون بـ”الإصلاح الدينيّ” أنفسهم بالذّات. ومن ثمّ، فخطّة “الإصلاح الدينيّ” برعاية الإمبرياليّة والسّلطويّات العربيّة هي في حقيقتها تغييب للمشكل الذي ينهش في لحمنا منذ زمن طويل، مشكل السياسة.
وبرأينا، فإنّ مربط الفرس ليس إذا كان العنف الذي تُمارسه “داعش” عنفًا إسلاميًّا أو غير إسلاميّ، ما يهمّ هو كيف نفهم هذه الظاهرة التي تُسمّى “داعش”، وبأيّ وجهٍ نقاربها، وفي أيّ سياقٍ نشأت. فوفقًا لأساسيّات العلوم الاجتماعيّة، فإنّ كلّ ظاهرةٍ هي ابنة سياقها الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، وهذا حتى تكون الظاهرة مفهومة، وقابلة للتفسير، وأن لا تتحوّل -كما يحصل اليوم- إلى “أسطورة” و”حربِ كلماتٍ” لم نعد نميّز فيها الظاهرة من خارجها. وإذا كان الأمرُ كذلك؛ فالعنفُ نفسه سيتحوّل إلى مفهوم سياقيّ، بمعنى أنه لن يكون هناك شيءٌ اسمه “عنف” في المطلق، إنّما عنف معيّن ومحدّد. هذا فضلًا عن أنّ ما يحدّد العنف اليوم هو القويّ، وما يرسم إطاره هي المنظّمات الدوليّة التي تحدّد “الشرعيّ” من العنف من “لاشرعيّه”.
لا أحد خارج الجغرافيا، ولا فكرة أيضًا. فـ”داعش” ليست شيئًا متخيّلًا، إنّها ظاهرة واقعة ماديّة ملموسة. والحربُ، حربها، سياسيّة بالمقام الأوّل، وليست حربَ أفكار. وكما يقول الرّاحل إدوارد سعيد: “لا أحد منّا خارج أو فوق الجغرافيا، ولا أحد منّا حرّ تمامًا من الصّراع على الجغرافيا. وهذا الصّراع معقدٌ ومثير؛ لأنّه ليس فقط حول الجنود والمدافع، وإنّما أيضًا حول الأفكار وحول الأشكال وحول الصّور والتصوّرات”. (الثقافة والإمبرياليّة، النسخة الإنجليزيّة، ص 7). ومن ثمّ، فلا بدّ لنا من اعتبار السياسة بوصفها النسق المهيمن على الإنسان الحديث، ومقاربة العنف الجهاديّ في سياق سياسيّ، لا في سياق دينيّ؛ لأنّ مشاريع الإصلاح الدينيّ فاشلة ذاتها من ناحية، ومن ناحية ثانية فإنّها تنطوي على أعطاب ربّما لا تقلّ فداحةً عن المشاريع المخالفة لها.
ويحلو لبعض المعلّقين أن يتجاهلوا الظرف، والشروط، والسياقات التي أنشأت “داعش” لينخرطوا في تفسيرات جوهرانيّة، سواء أكانوا إسلاميين متنوّرين أو ليبراليين علمانيين، تفسّر “داعش” على أنّها ظاهرة تراثيّة، وهم يعنون بكونها تراثيّة أي إنّها تستمدّ قوتها الرمزيّة وتستندُ إلى مرجعيّة تراثيّة في نصوصٍ معيّنة وترجعُ إلى تأويلات لنصوص الكتاب والسنّة. لكن لماذا هذا التفسير خاطئ؟ أو ما مكمن الضعف فيه؟ أولًا، يجب التنويه أنّ محاولتنا للدّفع بـ”داعش” خارج التراث لا تعني محاولة تبرئة التراث أو محاكمته، إنّما هي مطلب بالأساس لفهم الظّاهرة التي تستدعي تأويلًا مناسبًا لها، حتى لا تغدو أسطورة لا يمكن تأويلها. وعندما نقول إنّ “داعش” ظاهرة حداثيّة، لا يعني محاولة إلقاء مشاكلنا -وعلينا أن نتساءل: هل داعش مشكلة إسلاميّة؟- على الآخر الذي نعيشُ حداثته الفائقة، وإن في ظلال الاستعمار منذ “عصرنا الحديث”.
وصراحةً، إنّ تأويل “داعش” على أنّها ظاهرة تراثيّة لهو أمر مريح، ومحبّب إلى الباحث؛ لأنّ بإمكانه أن يأتي بنصوصٍ من هنا ومن هناك، بله أن يأتي بالبيانات “الشرعيّة” التي يخرجُ بها علينا القادة الداعشيّون ليقولوا هاهي النّصوص التراثيّة. ما أيسر ذلك. لكن ما أجادل به هو كونها ظاهرة حداثيّة على نحوٍ فريد. وهي حداثيّة بمعنى أنّه لولا السياقات الحديثة التي نعيشها ما كان للظاهرة أن تكون بهذا الشّكل؛ لأنّ كلّ ظاهرة هي فريدة بطبيعة الحال. فالمسار الذي تسير فيه “داعش” هو مسار ينحو نحو تحقيق “دولة” ذات سيادة حديثة، ولها مواطنوها المُنتجَون كذواتٍ حديثة، ولها “اعتراف” إقليميّ ودولي. وذلك لأنّ الحُلم الداعشيّ، بالنهايّة، هو حلم جغرافيّ وسياسيّ.
إنّ الإسلامويّة بكلّ مخرجاتها، السياسيّة والجهاديّة، هي مُنتج حديث، وحديث جدًّا؛ بمعنى أنّه لا يمكن الحديث مثلًا عن “إسلامٍ سياسيّ” فيما قبل العصر الحديث. العصر الحديث وفّر انتقالًا ما، خلقَ بنية معيّنة، سهّل توسّطًا تاريخيًّا، لقيام ظواهر واختفاء أخرى. ومن ثمّ، فعند مقاربة داعش كظاهرة حداثيّة هي للتأكيد أنّ الإسلام أو تراثه لا يعانون من “مأزق جوهريّ” ومن ثمّ فهما بحاجةٍ لإصلاح. فالعنف الذي تمارسه داعش مثلًا هو نابع من العنف الحديث، من نظرة حديثة جدًّا للفرد وللذات وللعالَم.
ما يغضب منه مَن هم ضدّ الرؤية ليس تحليل داعش في إطار المفاهيم الحديثة جدًّا؛ وإنّما، بالأحرى، لأنّه يجرح نرجسيّة الحداثة التي نستبطنها. في حين أن الحداثة نفسها، بما تحمله من إنسانويّة جامحة، مارست العنف على داخلها قبل خارجها. فالحداثة، وأنا لا أتكلّم عنها هاهنا بوصفها مفعولًا تقنيًّا وإنما كرؤية للعالَم، تستطبن بداخلها متعاليات حديثة سلطويّة وعنيفة جدًّا وضبطيّة، ربّما هي التي وفّرت للإنسان الحديث أن يتحكّم كل هذا التحكّم في الهامش والضعيف والغير.
إنّ ما يدفع بنا لاعتبار “داعش” ظاهرة تراثيّة هو لأنّ ثمة متعاليًا على تفكيرنا يقول إنّ العنف ظاهرة ما قبل حديثة، ظاهرة تعود إلى الأديان توحيديّة كانت أم غير توحيديّة، وهذه هي سردية الحداثة على أيّ حال. ومن ثمّ، فنحن نؤمن، مضمرًا، أنّنا -منذ الحداثة- قد بلغنا “الرّشد” -كما عرّفه كانط-، وبلغنا رتبة الذات التي نزعت السّحر عن العالم -بتعبير ماكس فيبر-، ووصلنا إلى المواطنة الكوزوموبوليتاليّة، حيث انتهى الإنسان البدائيّ، وانتهت سرديّات العنف قبل الحديث. هل يقتلُ ما هو حديث؟ وفقًا للسرديّة الحداثيّة لا؛ إلّا أنّ ابن تيميّة يقتل، وابن حنبل، والشافعيّ، لأنّهم ما قبل حديثين. ووفقًا للسرديّة الحداثيّة، فإنّ “ما قبل الحديث”، ومنه الإسلام، لا بدّ من إصلاحه بما يتوافق مع “الحديث”؛ لأنّه إن لم يُصلَح فهو مصدر عنف وقتل.
نودّ أن نتذكّر هاهنا أنّ الليبراليّة الحديثة التي تشنّ حملتها على العنف قد تأسّست على العنف وبُنيت عليه، وأنّ ما في الأمر هو، كما يوضّح البروفيسور الكبير طلال أسد، في التفريق بين عنف “الحرب” وعنف “الإرهاب”. فعنف الحرب، وعنف الدّولة، وسيادة السلطة، هي أمور مترسّخة في جوهر الليبراليّة الحديثة، ونقمتها على الإرهاب، إسلاميًّا كان أو غير إسلاميّ، هو لأنّه عنف غير قانونيّ. فكما تطلبُ “داعش” من مواطنيها أن يكونوا فداءً لما تريد، فالديمقراطية الليبرالية بالمثل تتطلب ولاء وفدية من المواطنين والموت للزود عن حياضها وعن حياض الحياة الحديثة. يقول طلال أسد: “الإرهابيّون الحديثون ينتمون، بأحد المعاني المهمّة، إلى الكون الليبراليّ نفسه مثل الدول الديمقراطيّة المنخرطة في حروب “مبرّرة”. من المؤكّد أن الإرهابيين مجرمون بنظر القانون الرسميّ؛ إلّا أنّ منطق العنف الكامن وراء الصراع مع دول قائمة مشتركٌ بين الطرفين. إن الأنظمة الديمقراطيّة الليبراليّة تطالب مواطنيها بأن يكونوا مستعدّين ليقتلوا ويموتوا في سبيل شعار مجرّد. وخطاب الدولة يسلّم بوجوب التضحية بالحياة الإنسانيّة لضمان استمراريّة دولة معيّنة أو حضارة كونيّة شاملة محددة. فالاستعداد للقتل والموت هو أحد شروط الحريّة الليبراليّة، وهو ينطوي على قلْب سياسة العنف إلى سياسة الحرب. إن لليبراليّة، هي الأخرى، ثقافة موتٍ تميّزها”. (طلال أسد، عن التفجيرات الانتحاريّة، ص 17).
وإذا كان يُحبّب إلى المعلّقين أن ينسبوا إلى “داعش” صفه الشموليّة، بوصفها ظاهرةً توتاليتاريّة، فهي كذلك كجزءٍ لا يتجزّأ من التوتاليتاريّات الحديثة. فثمّة تفوّق أخلاقيّ لدى الدّول الغربيّة عندما تتحدّث عن حروبها بوصفها “حروبًا عادلة”، وشرعيّة، وأنّ عنفها “مبرّر”، في حين أنّ أي عنف آخر، هو إرهاب. ونلحظ في “خطاب الإرهاب”، كما يسمّيه أسد، أنّه يعمد إلى محاكمة نوايا الفعل لا أسبابه، فتقييم العنف يكون عن نيّتك في القتل، لا عن أسباب قتلك. وبهذا، فإذا كان قتلك من أجل “دمقرطة” العالَم الثالث وإزالة المستبدّين، كما هو خطاب الإمبرياليّة الأمريكيّة عند احتلال العراق؛ فقتلك مشروع ومبرّر. أما إذا كنتَ تُسند نيّتك على دينٍ، أو فكرة عليا؛ فإنّك إرهابيّ. ولهذا، أيضًا كما يوضّح طلال في كتابٍ آخر، هناك حساسيّة ليبراليّة من القتل باسم الله، في حين أنّ القتل باسم الفكرة العلمانيّة والديمقراطيّة لا تفعل الحساسيّات نفسها.
وخلاصة القول؛ إنّ الحرب حرب سياسيّة، والاعتذار الذي يُقام اليوم عن “داعش” من السّياق الإسلاميّ هو اعتذار في غير محلّه. فإشكالاتنا إشكالات سياسيّة بالمقام الأوّل، وتحوير الأمر إلى إشكال دينيّ هو خيانة للظرف الذي نعيش، ولمشاكلنا ضدّ الاستبداد الداخليّ والإمبرياليّة الواقعة علينا.
المصدر : صحيفة التقرير