في عام 2004 وبينما كانت وكالة الاستخبارات الأمريكية تكثف جهودها في ملاحقة أسامة بن لادن، كان كل شريط صوتي أو فيديو يتحدث به بن لادن لا تتجاوز مدته الثلاث دقائق ويخضع لتدقيق كبير لمحاولة تحديد موقعه، علماء بالجيولوجيا والنباتات وعلم النفس استعانت بهم كثيرًا الاستخبارات الأمريكية، حتى وصل الأمر في واقعة شهيرة أن تعاونت معهم السلطات الألمانية بتحديد صوت طائر يزقزق في أحد الشرائط الصوتية وتم بهذا الخصوص الاستعانة ببعض خبراء الطيور لتحديد فصيلة هذا الطائر وبالفعل تم ذلك ولكن استمر الحال دون الوصول للهدف الرئيسي وهو أسامة بن لادن رغم تحديد صخور تورا بورا والبحث الكثيف بعد أحد التسجيلات للكهف الذي كان يختبئ فيه بن لادن .
هذه الأيام يجري الحديث عن سينما داعش وعن قدراتها السينمائية الرهيبة ذات الشكل الاحترافي والأساليب الرهيبة تختلف عما عهدناه من فيديوهات القتل وقطع الرؤوس، منذ ظهور القاعدة، حتى الآن حيث كانت تستخدم الكاميرات البسيطة أو الهواتف الجوالة. أما اليوم فإن داعش تستخدم السينما كصناعة لجذب الجمهور والمشاهدين والتأثير عليهم، وبث روح الرعب والخوف، في كل عمليات التصوير استخدمت داعش طواقم من المصورين والمنتجين الغربيين المحترفين في صناعة السينما، واستخدمت كاميرات HDعالية الجودة لتنتج فيديوهات لا تقل احترافية عن استديوهات هوليوود عبر مؤسسات الإنتاج التي قدمت أفلامًا يمكن تصنيفها في خانة الأفلام الوثائقية أو التسجيلية مؤسسة الفرقان ومؤسسة خيبر ومؤسسة دابق ومؤسسة الحياة تعني كلها بإنتاجات بصريّة تخضع بصورة كاملة للرؤية التي تريد داعش نقلها .
في تقرير صادر عن الأمم المتحدة حول تنظيم “داعش” الإرهابي لخص فيه أهداف فيديوهات التنظيم الإجرامي في سببين وهما، الأول هو تخويف السكان المدنيين في المناطق الخاضعة للتنظيم، والثاني هو دعائي محض لاستقطاب المقاتلين الأجانب وجلب مزيد من الدعم. وأضاف التقرير أن الذراع الإعلامي للتنظيم يمثل سندًا قويًا لاستقطاب مجاهدين، ولعل إصرار التنظيم على تصوير جميع عمليات إعدامه لرهائنه بالطرق البشعة نابع من رغبة تنظيم “داعش” في تقديم نفسه على أنه المحارب الأول الذي لا يمكن القضاء عليه .
ومن جهة أخرى لم يقتصر تنظيم داعش على تصوير فيديوهات عادية بإمكانيات بسيطة، بل شكل ذراعًا إعلاميًا احترافيًا، ودعمه بحضور كبير على شبكات التواصل الاجتماعي. فمنذ فيلم حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة بدأ الحديث عن “الاحترافية” التي جرى بموجبها إخراج هذا الفيلم الدموي. فهذا التنظيم الدموي الذي أطلق على فيلم الكساسبة تسمية “شفاء للصدور” في مسعى تأويلي منحرف للآية الرابعة عشرة من سورة التوبة إنما يريد إشغال الجميع ليس بدوافعه المنحرفة والمرضية بل بقصة قدراته في توظيف التكنولوجيا المعاصرة التي تعد من المحرمات عندما لا تلائم توجهاته. فيما يتعلق بسينمائيي “داعش” فإنه لا يوجد أي تبرير أخلاقي لمن يوظف قدراته الفنية في رسالة الفن الإنسانية ومنها السينما والهبوط بها إلى هذا المستوى من الانحطاط والدونية، فأي تبرير أخلاقي أو قيمي أو فني يمكن أن يقدمه هؤلاء الفنيون وهم يجبرون إنسانًا بريئًا يسوقونه إلى الموت بإجباره على تمثيل موته في إطار صناعة سينمائية؟
قدر خبراء أمريكيون تكلفة تصوير هذا الفيديو البالغة مدته 22 دقيقة بنحو 200 ألف دولار، بالنظر للمعدات الاحترافية وطريقة الإخراج التي اعتمدها التنظيم. وأكد الخبراء أن التصوير تم في مواقع مختلفة وليس في موقع واحد، وأشار الخبراء إلى أن تصوير فيديو من هذا النوع يتطلب فريق عمل محترفًا وملمًا بمهن السينما. ولم يقتصر التنظيم الإرهابي على ذلك، بل نفذ عملية ذبح الضحايا المصريين في ليبيا على شاطئ البحر، أمام كاميرات، وزعت بحرفية بالغة، وبزوايا متباعدة لالتقاط أبشع مشاهد الموت، ولم تتوقف سلسلة إعدامات “داعش” السينمائية وآخرها ما حدث في تدمر السورية .
عمومًا يجمع الخبراء أن أفلام داعش تشترك في مجموعة من الخصائص :
اختيار العناوين
أهم ما يميز الأفلام المختلفة التي أنتجتها داعش هي أسماؤها التي تتراوح بين اقتباسات قرآنية كـ “شفاء الصدور”، أو صيغ تختزل مضمون الفيلم بصورة شعرية، كـ “صليل الصوارم”. “داعش” لا تبرر الجريمة بل تلجأ إلى تأويلها بالعودة إلى نصوص دينية سواء من القرآن أو السنة وذلك إما باجتزائها او إخراجها من سياقها لكي تبني عليها تصوراتها الإجرامية.
الموسيقى التصويريّة والمؤثرات البصرية
تلعب المؤثرات الصوتية دورًا بارزًا في البناء الدرامي للفيلم. الخلفية دائمًا تحوي أصواتًا واقعية من ميدان القتال تغلب عليها أصوات الرصاص والقذائف والتهليل والتكبير والآيات القرآنية. لكن الأهم هو الأناشيد التي تختلف باختلاف المضمون. أما الأساليب البصرية تشبه الإنتاجات الهوليودية بالألاعيب البصرية والقريبة من ألعاب الفيديو أو الحركات البطيئة أو الفلاش باك .
أسطورة الجهادي
يبدو المقاتلون كأنهم فرسان خرجوا من الأساطير، مظهر مقاتلين مهمّشين ومظلومين يحاولون الذود عن أرض الإسلام واستعادة الحق المُستلب.
الحبكة الدرامية
الحبكة الدرامية التي تبنى على أساسها هذه الوثائقيات بسيطة، فهي تصوّر انتقال المقاتلين من مكان إلى آخر، أو العمليات التي دارت في مدينة ما، أو الانتصارات.
يبقى السؤال المطروح هو الخطوات القادمة لمحاربة هذا التنظيم فإلى الجانب الحل العسكري فلا بد أن يتضافر إلى جانب ذلك حملة إعلامية وسينمائية قادرة على دحض مواقف داعش وبقية التنظيمات الإرهابية فالحل العسكري يبقى قاصرًا وحده على محاربة هذه التنظيمات بل يجب أن يسند كما قلنا بمعالجة شاملة دينية واجتماعية واقتصادية وثقافية .
المصدر : ساسة بوست