مقالات

صلاح الدين الملوحي – بين دبلوماسية التمدد التركية واستراتيجية الغزو الإيرانية

مدفوعًا بمحافَظَة مؤسِّسه أردوغان ورؤية أوغلو والذي أفرد لها كتابه الضخم المترجم للعربية (العمق الاستراتيجي)، ومدفوعًا بالتردد والفتور الأوروبي تجاه ملف الانضمام للاتحاد الأوروبي وبمقتضيات التطورات في عالم العلاقات الدولية، وما أفرزته من تجاوز للماضي والانشغال بالحاضر، والمستقبل وما أتاحته من فرص للتواصل، كان من المتوقع مخالفة حزب العدالة بعد وصوله السلطة للعرف الذي سارت عليه الحكومات التركية السابقة، والذي دشنه أتاتورك والقاضي بإشاحة الوجه كليًا عما يدور في الشرق، والتوجه قلبًا وقالبًا تجاه الغرب، والنهل منه، والنأي عن القضايا المشرقية.

وبتوجه العدالة شرقًا انفتحت أمام تركيا أبوابًا وعوالم وأسواقًا جديدة كانت موصدة في السابق بحكم سيادة العقلية القديمة، وترتب على ذلك وضع أسس استراتيجية تمدد وانتشار، مستندة إلى ما لدى تركيا من خصائص جغرافية واقتصادية واجتماعية، وما لدى المجال العربي من خيارات جذب واستثمار وفراغ، ومرتكزة إلى قواسم مشركة عديدة ساهمت بالتقريب الحاصل مثل الدين والتاريخ.

اعتمدت تركيا على عدة أدوات ساعدتها في تثبيت وجودها، وفي حجز موطئ قدم لها في العالم العربي، فابتداء بدبلوماسية المسلسلات التركية، التي غزت البيوت العربية مرورًا بجاذبية السياحة التركية وأسعارها المناسبة، وليس انتهاء بالنموذج التركي الفريد، والذي استطاع تقديم وصفة جمعت إلى حد كبير بين الحداثة والأصالة، وهو العمود الذي شكل دعاية كبيرة لتركيا من جهة تعطش العالم العربي لتجارب تحديث ناجحة متسامحة مع التراث، ومن جهة أخرى فشل معظم المغامرات العربية على كافة الصعد في تشكيل نموذج عربي يمتلك، ولو الحد الأدنى من النجاح، ناهيك عن الإشباع أو الإقناع.

كما بدأت تركيا بعد العدالة في المنافسة في المجال الديني لتصبح الآن وبعد 13عامًا من حكم العدالة إحدى الحواضر، والمراكز المسلمة التي تشارك في صياغة الأمزجة الدينية، وتقديم الرؤى والفرضيات والتفسيرات الدينية، وتمويل بناء المساجد بعد أن كان الأمر حكرًا في السابق على مكة والقاهرة، وقم والرباط.

لاقت دبلوماسية الانتشار التركية هوى عربيًا شعبيًا لم يخل من توجس حكومي لما فيه من ترويج لمزايا الديموقراطية وحقوق الإنسان، وقدرتهما على تحقيق بعث حقيقي للأمم والمجتمعات، لكن تركيا وبكل حكمة حافظت على عدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية، واكتفت بمناصرة قضايا العرب في المحافل الدولية (رفض فتح المجال التركي لغزو العراق- تراجع العلاقات الإسرائيلية التركية)، ولم تعمل على استمالة قطاعات، أو أحزاب أو جماعات بالداخل العربي، الأمر الذي قلل من حدة التوجس الحكومي وأبقاه حبيس القلق من القدرة الإلهامية فقط، والتي أعطاها تماثل المذهب مع الأكثرية الساحقة للجمهور العربي زخمًا إضافيًا زاد من حضورها، وراكم من رصيدها.

لم تدعم تركيا جماعات حقوق الإنسان، أو منظمات المجتمع المدني العربية كما كانت تفعل الولايات المتحدة بكثير من الازدواجية، وراعت إلى حد كبير حساسية السلطويات العربية لهذا الأمر، واكتفت بالتعويل على الزمن الذي سيعمل لصالح الشعوب، لذا كان لافتًا ومعبرًا للغاية قول الرئيس التركي آنذاك غول مع انطلاق قاطرة الربيع العربي: “إننا ننظر إلى ما حدث في العالم العربي على أنه كان متوقعًا بل ومتاخر”.

واستطاعت وفقًا لهذه السياسة النائية بنفسها عن الدواخل العربية تحقيق حضور اقتصادي مهم وموقع اعتباري كبير، وصداقات بعضها حميم مع قيادات عربية وعلاقات جوار ودية أدت إلى توقيع اتفاقات في مختلف المجالات، ورفع فيز الدخول مع كثير من البلدان العربية.

ومع بدء الربيع العربي ومع حسم تركيا موقفها منذ البداية إلى جانبه، وإلى جانب المتظاهرين في الميادين العربية، تعزز أكثر فأكثر حضورها في الوجدان العربي من دون أن يمر ذلك دون أن يسجل عليها البعض تحفظه تجاه تقاربها مع فصيل بعينه من فصائل الثورة العربية، إلا أنها خلافًا لإيران كان موقفها متناسقًا على طول الخط فلم تدعم محطة من محطات الربيع، وتقف ضد محطة أخرى بل كان حماسها متساويًا حتى مع من كانت تجمعها معه أشد الصلات ودية أعني بشار.

على الضد من ذلك تمامًا كان المسلك الإيراني، منذ مجيء الملالي للسلطة في أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979.

لم تأل إيران جهدًا منذ البداية في محاولات تصدير الثورة، وتضخيم المشاكل مع العالم العربي ودول الجوار، مستندة في ذلك إلى روح انتقامية ثأرية ترى في التاريخ الماضي، مرجعية للحاضر والمستقبل.

لم يمر على الثورة الإيرانية عام واحد إلا وكانت طبول الحرب مع العراق قد قرعت، وابتدأت معها استراتيجية الملالي في تفجير الدواخل العربية، وفي التعاطي مع الأقليات الشيعية في عالمنا العربي باعتبارها جاليات إيرانية عابرة للحدود مرتبطة بقم أكثر من كونها مكونات وطنية مندمجة في عوالمها العربية، ومجتمعاتها ذات الأكثرية السابقة.

وحتى الحج وهو موسم التجمع الأكبر للمسلمين لم يسلم من تدخلات الملالي، ومحاولة استثماره للترويج لمشروعهم، ولشعارات المظلومية.

ومما ساعد إيران في اختراقها للحصون العربية كون هذه الأخيرة فشلت في تأسيسس حالة مواطنية حقيقة؛ نظرًا لغياب أدنى ملامح الديموقراطية عنها، الأمر الذي استغلته إيران لتعزيز حضورها في أوساط الأقليات الشيعية التي شعرت بالحاجة لحامٍ خارجي أمام طوفان الأكثرية.

لم تعدم إيران وسيلة من وسائل التدخل الفظ والمباشر إلا واتبعته، فمن حملات التشييع إلى برامج الابتعاث للحوزات إلى تسليح الأقليات وتأليبها على الحواضن وتشكيل الميليشيات وائتمارها بإمرتها وتحولها لأدوات تعطيل وغزو وبندقية للإيجار مثل حزب الله في لبنان، وأداة انقلاب مثل أنصار الله في اليمن.

ورغم توسلها بالقضية الفلسطينية العزيزة على قلوب العرب إلا أن مستوى الاستجابة الإيرانية بلغ شأواً بعيداً لم تفلح معه كل محاولات التجميل، وخصوصًا بعد ثبوت ازدواجية معاييرها مع انطلاق الربيع العربي في محطته السورية، حيث وقفت إلى جانب جزار متوحش عجزت كل الرطانة الممانعاتية وعلى مدى الـ4سنوات الفائتة في تبرير تحالفها معه ومده بكل أسباب البقاء وهو يلقي بالبراميل على العزل السوريين.

لقد كانت إيران الملالي وخلال 36 سنة من عمرها على النقيض تمامًا من تركيا العدالة؛ من حيث النموذج ومن حيث أدوات التمدد.

فمن حيث النموذج جمعت إيران أقبح مافي جعبة نمط الاستبداد الشرقي القديم (الساساني الفارسي وفكرة التغلب السنية التي تمنع الخروج على الحاكم وتشترط السرية في نصحه وتحظر العلنية)، وأقبح ما في جعبة النظام الثيوقراطي الديني الذي يضفي على مرشد الجمهورية صفات إلهية كما في حالة البابوات، مضافًا له شعارات تحريضية تستمد زخمها من نكسات الشيعة عبر التاريخ.

ومن حيث الأدوات كان تمددها أقرب للغزو المباشر بكل معنى الكلمة (بالسلاح والمرتزقة كما في سورية) منه للانتشار المقبول الذي يستند إلى التجارة والصناعة والسياحة، كما هي حالة تركيا.

وفي الوقت الذي يمتلىء قاموس الدبلوماسية التركية بكل مصطلحات الحاضر الحديثة من ديموقراطية وحقوق إنسان، وعلمنة وتشجيع للاستثمار، مع لمسات دينية رقيقة روحانية، وينفي عن نفسه أي نوايا عثمانية كما يتهمه أعداؤه، يخلو القاموس الإيراني من ذلك، ويتخم بمفردات فائتة تستمد زادها من الماضي، ولا يتورع عن المجاهرة بها؛ مثل الانتقام من دمشق الأمويين والسيطرة على البحار، وضم بغداد كدرة تاج الإمبراطورية الفارسية، وكون البحرين محافظة إيرانية، ورفض الحديث عن قضية الجزر الإماراتية الثلاث، والتباهي بسقوط 4 عواصم عربية بيد إيران.

وفي المجال الديني وفي مقابل دبلوماسية المساجد التي ابتدأتها تركيا حديثًا للترويج لرسالتها الدينية التي تتوافق إلى حد بعيد مع رسالات الإصلاح الديني التي دشنتها الكاثوليكية ومراجعاتها الحديثة، توجد دبلوماسية الحسينيات التي تؤصل الحقد وتنهل من موروث اللطم، والنحيب الكربلائي القديم وتعيق أي تقدم لتجاوز الماضي المثقل بالمحن والمرارات.

ختامًا وبشكل رمزي يمكن اعتبار الفارق بين شادور المرأة الإيرانية ذي اللون الواحد والمشجع حكوميًا وبين حجاب المرأة المحافِظة التركية الزاهي والأنيق والمتعدد الألوان والمنسجم مع عصر الانفتاح، كدلالة على التباين الكبير بين المشروعين، من دون إنكار وجود قطاع عريض من الشابات الإيرانيات من الطبقة الوسطى واللواتي انحسر حجابهن وأبدين مقاومة لفرض زي النظام ومساعيه لتنميط المجتمع وإنكار تنوعه وادعاء تجانسه.

المصدر : صحيفة التقرير 

زر الذهاب إلى الأعلى