مقالات

نديم قطيش – ظريف: أسلوب جديد للمشروع القديم

إلى جانب ابتسامته الدائمة، تبدو المقالات الوردية واحدة من الأدوات الرئيسية لدبلوماسية وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف.

يشبه ظريف الرئيس الأميركي باراك أوباما في انتمائه إلى مدرسة الإيمان بقوة الكلمات. يكفي أن تتحدث عن الأشياء لتضمن حدوثها وتحققها في الواقع. لكن هذه المدرسة في حالة ظريف تبدو شديدة الانفصال عن الحقيقة.

أطل وزير الخارجية الإيراني عبر صحيفتي «السفير» اللبنانية و«الشروق» المصرية بمقالة عنوانها «الجار قبل الدار»، وأسهب فيها في الحديث عن العلاقات الإيرانية مع المنطقة العربية. بل ذهب إلى حد «الأستذة» على متلقي رسالته، في الشروح التي قدمها لشروط نجاح الحوار ضمن «مجمع للحوار الإقليمي في منطقتنا ومن ثم بين جميع الدول الإسلامية في الشرق الأوسط» كما جاء في المقالة الرسالة. ومن أهم هذه الشروط الأساسية، يحدد ظريف: «احترام سيادة ووحدة تراب جميع الدول واستقلالها السياسي وعدم انتهاك حدودها، الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، تسوية الخلافات سلميًا، منع التهديد أو استخدام القوة، السعي لإحلال السلام والاستقرار وتحقيق التقدم والسعادة في المنطقة».

صاحب الكلام هو وزير خارجية الدولة نفسها التي تدير أوسع شبكة ميليشيات مسلحة في لبنان والعراق وسوريا واليمن وغيرها. وهو وزير خارجية الدولة نفسها التي يدرب الحرس الثوري فيها خلايا مسلحة في البحرين، وتعج مواقع التواصل الاجتماعي بصور قائد فيلق القدس فيها متجاوزًا حدود الدول وسيادتها ومهددا وحدة ترابها بما يمثله من قيادة عسكرية لأوضح مشروع مذهبي في الشرق الأوسط.

ثم لا يلبث أن يطل ظريف قبل أيام عبر مقالة أخرى في الصحافة التركية في اليوم نفسه الذي كان مقررًا لوصوله إلى أنقرة بعنجهية لا تخفيها الابتسامة المعلقة دومًا على محياه. وكما اختار لإطلالته اللبنانية، منبر «السفير»، معروف الولاء لما يسمى محور المقاومة، اختار تركيًا الإطلالة عبر «كام حرييت» لسان حال حزب الشعب المعارض لرجب طيب إردوغان، وهي لطالما اشتهرت بالدفاع عن بشار الأسد.

في المضمون يوجه ظريف انتقادات مبطنة لحكومة إردوغان وسياساتها السورية ويكرر «بلباقة»، الاتهامات لتركيا برعاية الإرهاب، وهو ما سبب ربما تأجيل الزيارة بشكل مفاجئ وإلى موعد لاحق غير معلن.

لكن اللافت في المقالة هو، مرة أخرى، كمية انفصالها عن الواقع بشكل غير مقبول من وزير خارجية جرى تسويقه وصناعة أسطورته باعتباره ذروة ما وصلت إليه الدبلوماسية بشكل عام، إلا إذا كان التزوير والتحريف هما مقصد ما يكتب ويقول، وهو الأرجح.

يقول ظريف، إن نشوء «داعش» سببه الغزو الأميركي للعراق عام ألفين وثلاثة!!!
بعبارة واحدة يريد الوزير الظريف أن يمحو اثنتي عشرة سنة من التواطؤ الأميركي الإيراني على العراق، قافزًا فوق حقيقة الشراكة الإيرانية الأصيلة في الحرب على العراق كما في كل ما آل إليه العراق اليوم.

حبذا لو يعود الوزير الإيراني إلى أرشيف الرئاسة الإيرانية وتصريحات محمد علي أبطحي، نائب الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي للشؤون القانونية والبرلمانية، عام 2004 حين قال إنه «لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابل وبغداد بهذه السهولة؛ لكننا بعد أفغانستان حصلنا على مكافأة وأصبحنا ضمن محور الشر، وبعد العراق نتعرض لهجمة إعلامية أميركية شرسة».

أو عساه يعود إلى التحقيقات والتسريبات المرتبطة بتلك المرحلة وإلى معطيات مهمة أفرج عنها الدبلوماسي الأميركي العريق ريان كروكر ومفادها أن إيران كانت أكثر استعجالاً من واشنطن للإطاحة بصدام وأكثر سخاء مما توقع المحافظون الجدد بتوفيرها للأميركيين ما تيسر من مكونات عراقية في خدمة مشروع الحرب، بعد أن كانت وضعت بين أيديهم كل مقدرات تحالف الشمال الأفغاني للإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان وفتحت أجواءها للطيران الأميركي لدواعٍ إنسانية بحسب بيان شهير حينها للخارجية الإيرانية!
ويقول كروكر، الذي عمل سفيرًا للولايات المتحدة لدى أفغانستان والعراق، في مناسبة أخرى إنه خلال عمله في الخارجية، أجرى في أعقاب جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001، لقاءات مع دبلوماسيين إيرانيين لمناقشة الخطوات التالية في أفغانستان. يقول: «حينئذ كان لدينا عدو مشترك، طالبان وحلفاؤها من القاعدة، وأبدت كلتا الحكومتين استعدادا للتعاون. كان الإيرانيون إيجابيين وبراغماتيين، حتى إنهم أعدوا في إحدى المراحل خريطة قيمة للغاية تتضمن خطة طالبان العسكرية قبل بداية العمل العسكري الأميركي».
«كان الإيرانيون مكونا مهما في التحرك في أفغانستان. وقد التقينا خلال الشهور التي تلت من عام 2001 في أماكن مختلفة وكان الاتفاق الإيراني – الأميركي في مؤتمر بون حول أفغانستان محوريا في قيام السلطة الأفغانية المؤقتة التي قادها حميد كرزاي».

ولا يسقط من الذاكرة لقاء المعارضة العراقية لا سيما الشيعية وبرعاية مباشرة من طهران، تحت عنوان مؤتمر لندن، الذي سبق الحرب لإسقاط صدام وواكبها سياسيا وشعبيًا.
هذا في حديث التاريخ. أما في الوقائع الأقرب، فيعرف السيد ظريف الدور الفاضح الذي لعبه رئيس الوزراء نوري المالكي في إنهاء الجيش العراقي الذي بناه الأميركيون، وإغراقه في المذهبية والفساد بحيث أن هذا الجيش هو من سلم الموصل لـ«داعش»، لافتقاره إلى أي عقيدة قتالية وطنية أو مصلحة استراتيجية تتجاوز استخدام الجيش كوسيلة منفعة وابتزاز. وكل ذلك جرى برعاية إيرانية مباشرة واستثمار إيراني عميق في إنشاء ميليشيات مذهبية، رديفة وبديلة تحت تسميات لا تنتهي!!

أما حديث ظريف المتكرر عن مجابهة الطائفية فلا يثير إلا العجب، وهو الممثل لدولة المشروع المذهبي الأوضح باعتراف قامة إيرانية كهاشمي رفسنجاني. يقول رفسنجاني إن سياسة شتم الصحابة والاحتفال بمقتل الخليفة عمر بن الخطاب، قادت إلى نشوء «القاعدة» و«داعش» وطالبان وأمثالها!!

والمضحك أن كلام ظريف عن نبذ الطائفية يتزامن مع هدم مصلى أهل السنة الوحيد في طهران من قبل بلدية العاصمة مدعومة بقوى الأمن.

محمد جواد ظريف عنوان لأسلوب جديد في الدبلوماسية الإيرانية، لكنه حتى إشعار آخر، ممثل أفضل للمشروع الإيراني نفسه. مخمل الابتسامات والكلام الإنشائي الوردي في الصحف ليسا هما باب تغيير العلاقات في المنطقة. إذا كانت الأفعال تتحدث بصوت أعلى من الأقوال فالأفعال في الحالة الإيرانية هي اللسان الوحيد الذي تسمعه المنطقة بحكوماتها وشعوبها.. أما الكلام «فليس عليه جمرك»!!

المصدر : الشرق الأوسط 

زر الذهاب إلى الأعلى