منذ انهمرت الرصاصات الأولى على المظاهرات السلمية التي شهدتها سورية، أوائل عام 2011، قلت في جلسة نقاش صغيرة: “سنرى الدبابات في الشوارع”. جفل أحد الأصدقاء، ونظر إليَّ نظرة استنكار واستهجان، لكنه لم ينطق بأية عبارة. بعد سنوات، ذكّرني بذلك النقاش وبما قلته، ثم سألني: “ماذا تتوقع من تطورات؟”. فأجبته، إنني لست متنبئاً، ولكن، في الحرب الدائرة في سورية، وفي مثيلاتها من الحروب، يكفي أن تتوقع حدوث شيء ما ثم تنتظر، لتشهد حدوثه بعد فترة. وهذه الحرب، كما جميع الحروب القذرة، تكون مفتوحة على كل التوقعات والاحتمالات.
وكان أن توقع كثيرون أن تكون الحرب في سورية سريعة و(نظيفة)، لكنهم نسوا وقتها أن الحرب في سورية لا يمكن أن تكون استثناء عن غيرها. فكل ما يمكن أن يحكى عن الشروع في شن حروب توصف بالنظيفة كلام يجانب الحقيقة. فوفق أي مقياس نستخدمه لتصنيفها، نجد أن كل الحروب تصبح قذرة في مرحلة من مراحلها، تكون عادة الأطول. ولا تعتبر سرعة الحسم وقلة الضحايا محددات لتصنيفها نظيفة، فالنظافة في حل النزاعات هي عندما يجلس أناس نظيفون، يحملون الأقلام والأوراق بدل الأسلحة، إلى طاولات نظيفة، ويوقعون على أوراق نظيفة اتفاقاتٍ، تنهي النزاعات وترضي الجميع.
شهدت الحرب الدائرة في سورية كل الفظاعات التي شهدتها الحروب التي وقعت قبلها، وكل ما كنت تستبعد حصوله في بلد التعايش الطويل بين مكوناته الإثنية والدينية المختلفة والمتعددة حصل. ولا ندري، والحال على ما هي عليه، إن كانت هذه الحرب ما تزال حبلى بما لا نتوقعه، فلم يكن أحد يتصور أن صرخة ستخرج من إحدى الأمهات، تطلب من أي كان إبلاغها إن كانت جثة ابنها الذي قتل دفنت أم تركت في العراء لوحوش الليل تنهشها. وما زالت هذه الصرخة تطلق يومياً، وتتلاقى مع صرخات أمهاتٍ أخريات على طول خريطة البلاد. فقد بات مشهد مرور الناس قرب جثة ملقية بجانب الطريق في المناطق المنكوبة مألوفاً، حيث تبقى الجثث على هذه الحال، ولا تجد من يدفنها، حتى تأتي عليها الضواري قطعة قطعة.
وحين بدأت تتواتر أخبار اللامعقول الحاصل في الحرب، قال أحدهم: “انتظروا قليلاً، وستصبح سورية مضرب مثل”. كل من تعز عليه بلاده لا يتمنى أن يحصل شيء يعكر فكرةً نسَجها في خياله عن بلاد حَلم أن تصبح يوماً حاضرة لأطفاله، يكبرون فيها ويعلون بأيديهم مدامك أحلامهم. لكن ذلك كله يتكسر عند سماعك صحافياً يقول، بعد تجواله في مدينة عدن المحررة من الحوثيين: “من كثرة الدمار، حسبت نفسي أمشي في حلب”. نعم، أصبحت سورية والسوريون مضرب مثل، وأصبحتَ تشيح نظرك وأذنك حين يأتي الكلام عن عمليات ذبح بني بشرٍ. هي جرائم يقوم بها أجانب على أرض بلادك، وربما بعض ضحاياها أجانب أيضاً، لكن الأرض كانت خصبة لتلقي بذوراً أخرجتها، وأخرجت معها ما لا تستطيع البشرية تصوره من أساليب قتل، بعضها مستحدث، وبعضها منبوش من التاريخ.
والحرب المفتوحة على جميع التوقعات مفتوحة على توقع حصول سلامٍ أيضاً. وبعد أن اعترف النظام، أخيراً، بواقع وصل إليه منذ زمن، لكنه لم يعلنه سوى اليوم، وهو عدم قدرته على الاحتفاظ بمناطق ومدن متباعدة، وتراجعه منذ مدة طويلة عن مناطق أخرى، لاحت في الأفق بوادر حلول قد توقف عجلة هذه الحرب. إذ لم يعد للحرب وقود، مات كل شباب البلاد في أتونها، ومن استجلب من خارج البلاد للإدلاء بدمه مات أيضاً، وما عادت الأرحام تجود، فلا بد للسلام. ولكن، ككل ما حظي به السوريون، وكان يأتيهم مرفقاً بمنةٍ، منقوصاً، فيه من الخلل ما يفسد فرحتهم، أتت المبادرة التي اقترحتها إيران عرجاء.
في قلوب كثيرين غصة أن إيران التي تلاعبت بالبلاد، وباعدت فرص إنهاء الحرب، ها هي تأتي بمبادرة للسلام. لم لا، فليكن، فالأهم لدى كثيرين وقف إراقة الدماء التي ما عادت الأرض قادرة على ابتلاعها. ولكن إعادة إنتاج النظام هي ما لا يمكن أن يتقبله كثيرون. وإن لم يكن ذلك هو المقصد من مبادرتها، ففيها بنود قد تكون فتاكة، إن قبلت كما هي. ففي البند الثالث تنص المبادرة على تعديل الدستور بما يتناسب وطمأنة المجموعات الإثنية والطائفية”. فهل شكت الأقليات من مَظْلَمة وقعت عليها من قبل؟ وهل مشكلات البلاد منحصرة بمشكلات أقليات وأكثريات. في وقت يعتبر كثيرون أن ثورتهم خرجت من أجل تصنيف ساكن هذه البلاد مواطناً، والاعتراف بحقوقه. إن محاولة دولة تصنيف أبناء الشعب دولة أخرى على أساس إثني وطائفي، على شاكلة تصنيف أبناء شعبها، وتشريع ذلك في دساتير وقوانين، هو أداء أقرب إلى أداء مستعمر منتصر، يريد فرض سلامه، لا أداء وسيطٍ تفترض به النزاهة. لا يصح تشبيه الدستور الإيراني المقترح سوى بقانون بريمر الذي صاغه هذا الأميركي للعراق، بعد احتلاله عام 2003، وما زال العراقيون يدفعون ضريبة تطبيقه، فرقة وطائفية وفساداً تفرخ بمجملها فقراً ومرضاً وتخلفاً.
وحين لا يمكن لمتورطين في حربٍ قذرة سوى فرض سلام على شاكلتهم، يبقى التعويل باستحالة تمرير ذلك بوجود من لا يفرّطون بأرواح أحباء ماتوا على جبهات القتال، أو تحت القصف والحصار والجوع، أو في مخيمات اللجوء، ولا بأرواح من أصبحوا طعاماً للأسماك، وهم يحاولون العبور إلى ضفة النجاة.
المصدر : العربي الجديد