لا تخفى على المتابع ملامح مرونة في السياسة الإيرانية تجاه المنطقة، إن بتخفيف نزعات التهديد والعداء والتعبئة المذهبية لمصلحة الإعلان عن احترام مبدأ الحوار والتعاون وعلاقات حسن الجوار، وإن بانكماش الحضور العسكري في ميادين الصراع، أوضحه ترك الحلفاء في اليمن لمصيرهم، وما يشاع عن تراجع مساهمة الحرس الثوري في معارك العراق وسحب كوادره من جبهات الشمال والجنوب السوريين الى حدود العاصمة دمشق، وذلك بخلاف ما كان سائداً حيث تميزت سياسة طهران بالتشدد وبلغة إستقواء واستعلاء تفوح بطموحات إمبراطورية وبتصعيد توسعي لتحصيل مزيد من النفوذ الإقليمي تحدوه نشوة ما سمّي السيطرة على أربع عواصم عربية، عداكم عن الظهور المتكرر لقادة من الحرس الثوري وهم يوجهون بعض المعارك في سورية والعراق.
وما يزيد الصورة وضوحاً، تكرار دعوات طهران لجيرانها للتشارك في معالجة أزمات المنطقة وبؤر التوتر، وما يثار عن مبادرة إيرانية معدّلة لمعالجة المحنة السورية، وعن دور لمسؤولين إيرانيين في التواصل مع جماعات سورية مسلحة كأحرار الشام، لإيجاد صيغة توقف بعض المعارك المستعصية، كحالة مدينة الزبداني مثلاً، ويمكن أن يدرج في هذا السياق تعاطي طهران المرن والمتفهم مع القرارات الإصلاحية لرئيس الوزراء العراقي حتى لو بدا ذلك إدانة لحكم المالكي الذي رعته، وأيضاً ردها الباهت على التدخل العسكري التركي في سورية والعراق والذي كان، في ما مضى، بمثابة خط أحمر عند طهران ينذر تجاوزه بحرب شاملة، مقابل وضوحها اللافت في التعاون مع قوات التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» وعدم حرجها من بناء تفاهمات واصطفافات كانت مرفوضة ومرذولة حتى وقت قريب!
ثمة مياه كثيرة جرت بين حمى التصعيد الإيراني المرافقة للإنتصارات الميدانية التي تحققت في العراق ولبنان وسورية واليمن، ووصلت أوجها مع تمدد الحوثيين وسيطرتهم على مفاصل الدولة اليمنية، وبين انكفاء هجومها اليوم وميلها لتغليب النشاطات السياسية والديبلوماسية.
أولاً، لا يخطئ من يرجع الأمر للنكسات المتتالية التي منيت بها طهران وحلفاؤها في غير مكان، تبدأ بتقدم تنظيم «داعش» في العراق وسورية وسيطرته على مدن مهمة كالموصل والرمادي والرقة وتدمر ومساحات واسعة من أرياف دير الزور والحسكة وحلب، ربطاً باستعصاء دحره عراقياً وبنجاح جماعات أخرى، سورياً، في السيطرة على إدلب ومناطق من ريفي حلب وحماة، ثم الفشل الذي منيت به القوات النظامية وحلفاؤها لتغيير توازنات القوى في مدينة درعا والمنطقة الجنوبية.
وإذا أضفنا الاستنزاف الباهظ لـ «حزب الله» في الصراع السوري والذي أضعفه وزاد من صعوبة تطويع لبنان وإلحاقة بالسياسة الإيرانية، وأضفنا أيضاً ما حققته إلى الآن «عاصفة الحزم» وتمكن القوات الموالية للرئيس هادي من السيطرة على غالبية المناطق التي أخذها الحوثيون ووصولها الى مشارف العاصمة صنعاء، يمكن أن نقف عند أهم التطورات الميدانية التي أجبرت إيران على الانكفاء وتعديل إستراتيجيتها. ولكن هل يقتصر سبب هذا التعديل على عجز الخيار العسكري عن تحقيق تقدم ثابت في توسيع النفوذ أو الحفاظ على ما تحقق، أم يمتد ليشمل أخطاء مؤلمة ارتكبتها القيادة الإيرانية، جوهرها الركون لإغراء القوة والتفوق والذي لا بد أن يدفع ثمنه كل من يقع في فخه؟
أحد الوجوه الرهان على تحقيق انتصارات سريعة واستسهال توسيع المعارك وفتح الجبهات من دون حساب لحالة الإنهاك والاستنزاف المدمرة لقدرات طهران المادية والعسكرية، ووجهه الآخر قصور في قراءة ردود الأفعال المحتملة والاستخفاف بوزن مناهضيها ودرجة استعدادهم للتحمل والمواجهة!.
ثانيا،ً يصيب من يربط المرونة بتوقيع الاتفاق النووي بين طهران والمجتمع الدولي، إما لأن طبيعة الحدث تشكل حرجاً كبيراً للقيادة الإيرانية في الترويج لمنطق القوة والغلبة أمام ما حققه الميدان السياسي والديبلوماسي، وإما لأن ما كانت تسعى إليه إيران من توسيع نفوذها الإقليمي هو تعزيز أوراقها التفاوضية مع الغرب، الأمر الذي انتهت الحاجة إليه بعد إبرام الاتفاق! وإما لأن الاتفاق في حد ذاته يخلق تفاعلات داخل النخبة السياسية والدينية الحاكمة معززاً دور مراكز القوى التي تميل للوسائل السلمية والسياسية على حساب الوسائل العسكرية والتي تريد الالتفات الى حل مشكلات المجتمع وأزماته الداخلية وترفض سياسة تصدير الثورة وتحصيل النفوذ عبر تسعير الصراعات المذهبية في المنطقة، فكيف الحال إذا كانت الكتلة الأكبر من الشعب الإيراني تدعم هذا الخيار؟! وكيف الحال إذا كان الاتفاق النووي يفرض موضوعياً على طهران مناخاً ونهجاً جديدين يلجمان شهيتها التوسعية ومحاولات تصدير أزماتها الداخلية الى محيطها الإقليمي؟
ثالثاً، لا يخطئ من يرى الأمر من قناة اضطرار طهران بعد انكشاف البعد المذهبي والعنفي لمشروعها، الى إعادة تدوير الزوايا والمواقف عساها تحسن صورتها وتستعيد شعبية عربية واسعة فقدتها، متوسلة ما كانت تروّجه من أنها طرف مسالم ومحاصر، أو ثورة للمستضعفين والمظلومين، أو منافح عنيد عن القضية الفلسطينية ومقدساتها. وقد زاد الأمر إلحاحاً عليها بصفتها سلطة دينية، الضربة التي تلقتها الأحزاب الإسلامية في مصر وتونس وفشلها الذريع في إظهار نموذج جاذب للحكم الديني.
ويبقى السؤال في ضوء ما سبق: هل يمكن الرهان على تبدل حقيقي في سلوك طهران يتمثل دروس الماضي وينجلي عن نضج سياسي يعزز وزن الحسابات الواقعية في صنع القرار، ما ينعكس بإعادة تصويب مسارات التفاعل بين مصالح دول المنطقة على قاعدة من التوازن، جاعلاً الصراع بينها صراعاً سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً وديبلوماسياً يحتكم لأدوات حضارية وللمؤسسات الأممية؟! أم أن هذا التبدل ليس أكثر من مناورة موقتة أكرهت عليها طهران سعياً لالتقاط الأنفاس وامتصاص نكسات حلفائها في غير مكان، وربما لإشاعة انطباع إيجابي عن نياتها السلمية وسلاسة اندماجها بمحيطها إلى أن تضمن تمرير الاتفاق النووي عبر الكونغرس الأميركي!
المصدر : الحياة