تحتمل صور المجزرة، راهناً، الكثير من التبّدل والخرق وإعادة التركيب. مشهد البرجين التجاريين، وقد اخترقتهما طائرات القاعدة، طبع وعينا البصري حيال الظاهرة، وعي أقرب إلى سينما الأكشن التي يندر فيها ظهور الدماء. الارتطام والانفجار والأجساد المتهاوية من الطوابق العلوية بقيت أجزاء منفصلة تعيد تقنيات العولمة منتجتها، لتبدو أقل وحشية. كأننا حيال صناعة حداثية للمجزرة، تحذف الدماء والأشلاء والجماجم، وتُبقي على ما هو حركي، لينفي ثبات فعل الموت.
صحيح أن أخلاقيات إعلامية معتمدة غربياً ساهمت في صناعة مجزرة “11 أيلول” بصرياً، لكن الآلية الجذرية التي تبدّت، أدواتياً، ضمن سياق إنتاح المشهد العولمي، سعت إلى خلق حيز إنكاري، يأخذ من المجزرة إطارها الخارجي العام، ويخفي تفاصيلها.
اقتصرت الشهادات التي ظهرت بعد الحادثة على البعد الشفوي، ولم تشكل سرداً مترابطاً، ينافس ما جرى تصنيعه مشهدياً. طغت الصورة على فعل القتل، وحوّلته إلى موضوع، وظيفته إطلاق الحدث من دون التدخل بمجرياته ونتائجه.
ثمة انفصال، إذاً، بين القتل وصورته، والأدق، هي منافسة محسومة لصالح الصورة التي تتكفل التأسيس لتداعيات الحدث ونتائجه، في السياسة والاجتماع والعلاقة مع العالم. هكذا، يجري تسييس الضحية قبل رؤية دمائها، وإدراجها ضمن سياق توظيفي، يعتمد المشهد أداة لتسويغ مبرراته، فلا تبقى الضحية ضحية، بل تصبح ضحية لأجل.. وتفقد قيمتها اللحمية، ويتبدّى موتها صامتاً، داخل صورة باردة، تبثها التلفزيونات وتنشرها الصحف.
خلافاً لهذا الانفصال، تكشف مشاهد مجزرة دوما التي ارتكبها نظام الأسد، قبل أيام، عن التصاق جذري بين فعل القتل وصورته. تختلط أشلاء الضحايا مع الأدوات الطبية البدائية، ويرسم الغبار الذي خلّفه القصف خلفية رمادية قاتمة، فيما الأفواه المفتوحة ذهولاً تبتلع الحدث، وتعيد إنتاجه ملامحياً. انتقلت المجرزة، سريعاً، إلى الوجوه، وتحوّلت النظرات إلى أدوات لترسيخ المشهد وتعميق مأساويته. كما أن الدم بدا العنصر الأقوى، يربط أجزاء الفاجعة، ويرتب الضحايا تبعاً لنقصان أعضائهم. كان الجميع ملطخاً بالدم، الضحايا والمسعفون والأطباء، أحدهم لا ينتبه إلى بقع الدم على يديه، راح يضرب جبينه متأسفاً لهول الموت المحيط به، فظهر وجهه مدهوناً بالأحمر. أصبح الدم، بسبب كثافة حضوره، مادة غير مدركة، يصيغ المجزرة، ويخلق عصبية رحمية بين ضحاياها.
ينعدم الخيال إذاً في دوما، لا حاجة لتصور أحوال القتلى، ووضع سيناريوهات لنهاياتهم. هؤلاء يتكشفون بكثافة، ويسبقون الصورة التي توثق موتهم. دوما عاشت لحظة المجزرة، زمن ما قبل الصورة، اللحم المتظشي ألغى أي إمكانية لتأويل الحدث، وتحويله إلى رمزيات. سخونة الموت وقسوته منعتا تعليب المجزرة في مشهدية يشبه التعاطف معها ذلك الذي نبديه عند مشاهدة لوحة تشكيلية مؤثرة.
قاومت دوما تحويلها إلى لوحة تشبه واقعة 11 أيلول، حيث لا أصوات للضحايا، والدم مادة معدومة الوجود. كثفت المدينة عند قصفها الحدث المجازري، بوصفه واقعاً عصياً على التأطير البصري. الصور والفيديوهات لم تتدخل في منْتجة الحدث والتقليل من قسوته، بل تبدّت جزءاً من لحميته الطازجة. يكفي أن نشاهد أحد الناجين، وهو يرفع دراجته الهوائية التي سحق القصف عجلتها الأمامية، لندرك وظيفة الصورة. عشوائية الجزئيات تأتي بالضد من المشهد الكلي الناجز الذي استقرت عليه حادثة ضرب البرجيْن الشهيرين في أميركا، وبات جزءاً من أرشيف العالم البصري.
تنقذ المدينة المحاذية لدمشق مجزرتها من خطر الأرشفة، وتأبى القولبة الحداثية التي تحيل كارثتها إلى صور باردة. ثمة إصرار على تثبيت فعل الموت، بوصفه حدثاً بدئياً، لا يستوجب أي رمزيات أو تأويلات. حدث يسبق الصورة، ويدرجها في متنه، يكتفي بتفاصيله، ويصنع من كل جزئية واقعة منفصلة، تمنح الموت مزيداً من التكثيف.
لذا، استعصت المجزرة على القولبة، ولم يتمكن العالم الغربي من ابتلاعها في نظامه العولمي، تمهيداً لتحويلها إلى مشهدية قابلة للتصريف في شبكات الإعلام. ما سبب إحراجاً مضاعفاً يتجاوز الموقف السياسي السلبي، نحو الكشف عن ضحايا يكتفون بهويتهم قتلى، لا مكان للسياسة في توصيفهم. فبشار الأسد الذي يكرر الغرب معزوفة فقدانه الشرعية لم يعد موضوعاً سياسياً، بات مجرماً محضاً، خلافاً لتنظيم القاعدة الذي قُسّم العالم، انطلاقاً من الصراع معه.
لا يريد الغرب أن يرى جثة ملطخة بالدم، جثة غير مسيسة، هو يحبذ موتاً نظيفاً معقماً. لا يحقق فقراء دوما هذا الشرط، بل يغالون في نقيضه، أي يكشفون موتهم إلى حدوده القصوى.
المصدر : العربي الجديد