يكذب المجتمع الدولي، أو لا يعرف الحقيقة، عندما يروّج لمقولة إبقاء على مؤسسات النظام في سورية ضمن التسوية السياسية المنشودة. ومع ترجيح الاحتمال الأول، إلا أن تفنيد علاقة نظام الأسد بالدولة والمؤسسات ضرورة لأجل السوريين أنفسهم أولاً، ولرؤية الشكل الذي أُجهز به تماماً على مفهوم المؤسسة، وسيكون ضرورياً تبصّره في أية تسوية مقبلة لأن الإبقاء عليه لغم كفيل بتفجيرها، أو بتعطيل مشروع الدولة ككل.
ثمة كذبة قديمة لنظام الأسد، روّجها صحافيون وباحثون أجانب وعرب، فضلاً عن النظام، مفادها أن الأسد الأب نقل البلد من «الشرعية الثورية» إلى «الشرعية الدستورية»، خلافاً لرفاقه المتشدّدين الذين بدأت تستهويهم الماركسية والماوية. الوقائع المبكرة تفنّد هذا الزعم، فحافظ الأسد الذي لا تستهويه المفاهيم الثورية، لم يقتنع يوماً بمشروع الدولة، وكان لافتاً في أول حكومة تُشكّل بعد تنصيبه رئيساً، إسناد حقيبة الدفاع لشخص لم يؤدِّ الخدمة العسكرية، وكان قبل الانقلاب يرأس اتحاد الطلبة. ذلك في الوقت الذي بدأ نجم أخيه رفعت بالصعود السريع، رفعت الذي تسلّم قيادة الفرقة 569 وهو في سنّ الثلاثين، وأشرف أيضاً على «سرايا الدفاع» التي ظلّت تُعرف باسمه حتى حلّها عام 1984.
جدير بالذكر أن «سرايا الدفاع» ورثت مهام الحرس الثوري البعثي، لكن الوراثة لم تأتِ ضمن الانتقال إلى الشرعية الدستورية المزعومة، لقد كان الأمر أشبه بتشكيل إقطاعة عسكرية ذات امتيازات خاصة، وبالطبع تحظى باستقلالية تامة وإن تبعت شكلياً وزارة الدفاع. في حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، تحديداً في معركة مرصد جبل الشيخ، سيصعد نجم «الوحدات الخاصة» بقيادة علي حيدر. إثر الحرب، ستظهر نتائج الصعود بتطويب الوحدات الخاصة إقطاعية عسكرية تتضخّم مع الحاجة إليها إثر دخول قوات النظام إلى لبنان. حينها، لم يكن اسم إبراهيم الصافي، قائد الفرقة الأولى، قد برز، لكن إقطاعيته «الفرقة الأولى» سيذيع صيتها في ما بعد بارتكاب مجازر في حلب وحماة، قبل أن يُعيّن قائداً عاماً للقوات في لبنان.
حتى 1980، لم يكن السوريون يدركون جيداً أن مؤسسة الجيش اختُرقت عملياً بميليشيات تتبع نظرياً لها، ولمناسبة المواجهة بين النظام والإخوان ستظهر الحقائق. «أبطال» تلك المرحلة كانوا: رفعت الأسد قائد «سرايا الدفاع»، عدنان الأســد قائد «سرايا الصراع»، علي حيدر قائد «الوحدات الخاصة»، شفيق فياض قائد «الفرقة الثالثة»، إبراهيم الصافي قائد «الفرقة الأولى». هذه كانت تشكيلات النخبة المحسوبة نظرياً على الجيش، أما موازناتها وتحركاتها وأوامرها فتُقرر بمعزل عن وزارة الدفاع أو مَن يتسلم منصب الوزير، وكان التفريق يتم بينها وبين ما تبقى مما يسمى جيشاً بوصف الأخير «جيش أبو شحّاطة»، نظراً الى رثاثته وسوء حاله تسليحاً وتدريباً وصولاً إلى الهندام. عملياً، جيش «أبو شحاطة» وحده الذي يخضع لوزارة الدفاع، ويخضع لفساد من نوع آخر أدنى.
على المقلب الأمني، ستلمع أسماء موازية في تلك المواجهة، كاللواء محمد الخولي رئيس «المخابرات الجوية»، والعميد آنذاك محمد ناصيف رئيس جهاز «الأمن الداخلي» في دمشق، والعقيد آنذاك علي دوبا رئيس فرع «المخابرات العسكرية»، والمقدم بهجت سليمان ضابط مخابرات «سرايا الدفاع» الذي سيتولى في ما بعد عدداً من المناصب الأمنية قبل تعيينه سفيراً للنظام.
لقد صار واضحاً وقتها، أن البلد يخضع عملياً لسيطرة ميليشيات عسكرية وأمنية، ولاؤها المطلق للنظام، على قاعدة كونها إقطاعيات متآزرة ومتنافسة ضمن ما ترسمه العائلة «المالكة».
أصحاب الميليشيات الأمنية كانوا عموماً الأوفر حظاً في الاستمرار بعد قمع تلك الاحتجاجات، نظراً الى كونهم لا يمتلكون قوات مقاتلة قد تهدد العائلة، ومشروع التوريث الذي بدأ يظهر جدياً منذ تطوّع باسل الأسد في الجيش عام 1984، وهو العام الذي شهد أيضاً تحرّك «سرايا الدفاع» التي يقودها عمّه رفعت، في محاولة وُصفت بالانقلاب الفاشل. كما هو معلوم، كانت تلك هي اللحظة التي أدرك فيها حافظ الأسد ضرورة التخلّص سريعاً من قادة ميليشياته، تمهيداً للتوريث. لكن لم يكن بلا مغزى، إن لم نقل إن فيه كل المغزى، أن يعمد في تلك اللحظة نفسها إلى تشكيل ميليشيا جديدة تحت مسمى «الحرس الجمهوري»، وأن يعهد بقيادتها إلى عدنان مخلوف، نسيبه من جهة زوجته. أي أن فكرة حل الميليشيات التي قد تشكّل خطراً على الوريث لم تكن وحدها لتطمئن بال الأسد، هو الذي رسّخ نظامه على وجود ميليشيا حامية. وبينما سُرّح ضباط سرايا الدفاع المشهورون بولائهم لرفعت، ونُقل بعضهم إلى «جيش أبو شحاطة» كعقوبة وتجريد من الامتيازات، يُشاع أن عناصرها وصغار الرُتب نُقلوا إلى ما سيُشتهر لاحقاً باسم «الفرقة الرابعة» التي ستذهب قيادتها في ما بعد إلى ماهر الأسد، ويُقدّر قوامها اليوم بـ15 ألف عنصر.
صناعة الميليشيات هي أفضل ما يوضّح لنا اليوم سبب بروز أسماء جديدة قليلة وتنقّلها بين جبهات المناطق الثائرة. سنرى مثلاً، قائدين مثل عصام زهر الدين وسهيل الحسن يتنقلان بين شمال البلاد وجنوبها، والسبب هو اقتصار قوات النظام المدربة وصاحبة الامتيازات على قوات النخبة، وضمن قوات النخبة نفسها تُمنح الحظوة للقادة الذين أثبتوا فضلاً عن ولائهم المطلق، قسوة مطلقة ضمن قواعد الاشتباك. ولئلا يذهب الظن بعيداً، فالمقصود بالقسوة أيضاً ذلك الاستعداد المطلق للتضحية بالعناصر مقابل تحقيق النصر. على سبيل المثال، فقط قادة من هذا النوع لا يتورّعون عن دفع عناصرهم في حقل من الألغام، والتضحية بعدد كبير منهم لقاء تفجيرها واقتحام من يتحصّن خلفها.
بالطبع، للميليشيات العسكرية والأمنية سيطرة على الحياة العامة برمتها، ولقادتها باع مماثلة في تحقيق الثروات عبر طرق الفساد المعروفة، وعبر فرض أتاوات على نشاطات اقتصادية تقع في مجال سيطرتهم. احتكار الميليشيات العسكرية، عبر «الحرس الجمهوري» و «الفرقة الرابعة»، لصالح العائلة، كان صداه على الصعيد الاقتصادي بروز ظاهرتي مخلوف وحمشو كواجهتين اقتصاديتين، والهيمنة من خلال مئات الشركات على النشاطات الاقتصادية ذات المردود المرتفع أو السريع.
عندما يُحكى عن النظام، فهذه قوته الفاعلة وهذا هو جوهر فلسفته في الحكم، ولنا بعدها أن نتخيّل كيف ستكون مساهمته المنتظرة في التسوية.
المصدر : الحياة