يتوقف المرء مليا عندما يسمع مسؤولا سوريا يعلق على مجازر دوما التي راح ضحيتها المئات مطلع الأسبوع الماضي زاعما بأنها لم تقع أساسا.
وبحسب المسؤول -وزير الخارجية ما غيره- فإن ما رآه الجميع بأعينهم من آثار مدمرة لقصف الطيران الحربي السوري على سوق شعبي يخص عامة أهل سوريا، ما هو إلا “أخبار ملفقة يتم ترتيبها بفن إعلامي معين”.
ولكنه لم يعلن عن هذا الكشف العلمي العظيم إلا بعد شفعه بزعم أن “الإرهابيين” يتخذون المدنيين دروعا بشرية. فأي طرفي الجملة صحيح يا ترى؟ هل ما حدث هو أن “الإرهابيين” اتخذوا المدنيين دروعا بشرية مما أدى إلى قصفهم؟ أم أن الأمر كان كله فبركة “إعلامية”؟ وممن؟ ولماذا؟
نود أن نسمع ما يقوله الوزير وبقية أركان ما بقي من النظام السوري حول القصف الذي تجدد على دوما منذ السبت الماضي، وأدى إلى قتل مدنيين كثر. هل هو كذلك تخيلات إعلاميين؟ أم هو مجرد آثار جانبية لقصف الإرهابيين؟
في الأسبوع ذاته، عندما أثير موضوع المفقودين في مصر بمناسبة ذكرى فض اعتصام رابعة، استمعت كذلك إلى شخص قيل إنه محام وناشط حقوقي، ينفي وجود ظاهرة الاختفاء والإخفاء، ويزعم بأن “الإخوان” يخترعون مثل هذه الأمور.
وكانت قمة إبداعاته حينما طالب أهالي المفقودين بإثبات أنهم فقدوا!! وبحسب رأي هذا الألمعي فإن البينة في الاختفاء هي على أسر المفقودين، وليس من واجب الدولة المتهمة بخطفهم أو قتلهم مجرد البحث عنهم.
ولا أدري في أي بلد درس ذاك الرجل القانون، ولكن المعلوم في أي نظام قانوني أن مجرد الإبلاغ عن فقدان شخص ما، فإنه يفرض على المؤسسات الشرطية والأمنية البحث عنه، والتحري فيمن سبب اختفاءه.
ولكن مجرد رفض مؤسسات الدولة المصرية (ومن يدعون أنهم محامون وحقوقيون من أنصارها) أداء هذا الواجب هو بمثابة قول المريب: خذوني!
أستبعد أن يكون وزير الخارجية السوري يجهل أن أكثر من مائة سوري، بينهم أطفال كثر، ماتوا جراء القصف في ضواحي عاصمته. وأيا تكون هوية من قتلهم أو اتخذهم “دروعا بشرية”، فإنهم يبقون مواطنين سوريين تقع مسؤولية حمايتهم على الحكومة التي يتحدث باسمها السيد الوزير.
بالقدر ذاته، فإن المحامي المصري والناشط الحقوقي المزعوم يعلم بأن المئات قتلوا في رابعة، وأحرقت جثثهم. وأن هناك مصريين كثرا يخطفون ويقتلون ويعذبون كل يوم تقريبا.
وأن من يتولى كبر هذه الجرائم هو النظام. وكونهم من الإخوان أو الشياطين لا ينفي أنهم مواطنون مصريون على الجهة التي تسمي نفسها دولة وتدعي أنها مصرية مسؤولية حمايتهم والتحري عن الجهة التي غيبتهم.
الخطاب المصري الرسمي أصبح يستخدم كلمة “الإخوان” كما تستخدم داعش صفة “المرتد”.
فقد قرأت تصريحا لرئيس جامعة الأزهر يفتخر فيه بأنه طهر جامعته من الإخوان، كما يفتخر هتلر بإبادة اليهود، ويتبجح بأنه طرد خمسمائة طالب لأنهم من الإخوان، وفصل عددا لم يحدده من الأساتذة. مؤكدا أن الإخوان “لن يعودوا أبدا” إلى الأزهر.
فهل هذه تصريحات لمعلم ومرب، فضلا أن تكون لرئيس أعرق جامعة إسلامية في العالم، وهو يفتخر بتشريد طلابه لمجرد خلافه معهم في الرأي؟ هل هي لمصري؟ بل هي لإنسان؟
إن مثل هذا الإنكار لحقوق المواطنة للمخالف سياسيا، بل الإنكار لآدميته، بل لوجوده فضلا عن معاناته، لا تمثل فقط غياب الضمير والإنسانية عند هذه الجهات السادرة في غيها المودي إلى سقر.
هناك في هذا السلوك ما هو أبعد من الكذب والتعامي عن حقائق شهد عليها العالم كله. فقد تجاوز الأمر التعامي إلى العمى، كما يظهر من حالة كاتب سمعته أمس الأول يعبر عن تألمه وفجيعته لإصابة بضعة عشرات من المتظاهرين “السلميين الأبرياء” في بيروت، رغم أنه تخصص خلال السنوات الماضية في نفي تعرض أي أبرياء في سوريا لمكروه، رغم أن مئات الآلاف قتلوا هناك والملايين شردوا.
ولعل هذا “المحلل السياسي والاستراتيجي” الهمام يعتقد بأن قرابة المليون ونصف مليون سوري الذين وصلوا إلى لبنان خلال الثلاث سنوات الماضية جاءوا للسياحة والاستمتاع بجمال لبنان!! عندما تعمى البصائر لهذه الدرجة، فإن الأمر ينتقل من التواطؤ في الإجرام إلى حالة مرض عضال.
في عالمنا العربي، لا تقتصر هذه الحالة على أفراد أعماهم الهوى والغرض، وربما المنفعة، مما لدعم القمع والطغيان والإجرام. بل هناك قطاعات واسعة، إن لم تكن شعوبا بكاملها، لا ترى بأسا بالإبادة الجماعية للأبرياء، وتسوية المدن على رؤوس أهلها، وتعذيب الأبرياء حتى الموت.
وقد شهدنا في سابق العهود رجالا هجروا مواطنهم للدفاع عن الأبرياء والمظلومين. ولكننا لم نسمع حتى أيامنا هذه بمن يهاجر تاركا دياره للدفاع عن الظالمين، وللتشفي بقتل الأبرياء كما تفعل المليشيات التي تكاثرت في أوساطنا تكاثر الأوبئة.
سمعنا كذلك بمن يثور على الظلم والطغيان والقمع، ولكنا لم نسمع بمن “يثور” على الحرية والديمقراطية، ويهلل للقمع وقتل الأبرياء. فأي أمة هذه التي يكثر فيها أمثال هؤلاء؟
خلال قرون، ظل التحسر العربي هو على تخلفنا عن اللحاق بركب الأمم المتحضرة. ولكن يبدو أن الأمر لم يعد مسألة حضارة وتقدم، بل مسألة انتماء إلى جنس الآدميين. فما يرتكب في حق الأبرياء في طول العالم العربي وعرضه لا يمكن أن يقوم به بشر. أما من يهلل للظالمين فهو يحتاج إلى قطع مسافة طويلة في سلم التطور قبل أن يجري اتهامه بذلك.
لم تعد القضية في زماننا هذا هي الحضارة، ولا الأخلاق ولا الدين، فهذه طموحات بعيدة. ما كنا نتمناه أن ينتمي البعض إلى فصيلة البشر، أن يؤرقهم أن يعذب الأبرياء وتتحول البلاد إلى عذاب مقيم.
وعندما تبلغ أمة هذا المبلغ في التردي في سلم الإنسانية، فإن هذا مؤذن بهلاكها.
لقد جعل الله فرعون موسى عبرة لكل ظالم، على الرغم من أن فرعون موسى كان أفضل من بعض فراعنة عصرنا. فهو على الأقل لم ينكر عذابات ضحاياه، بل كان يعترف بجرائمه ويفاخر بها: “سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم، وإنا فوقهم قاهرون”.
ولنذكر الغافلين بأنه لم تكن في عهد فرعون موسى على الأرض قوة “عظمى” أخرى تنتصر لضحاياه الأبرياء.
ولكن القوة العظمى التي في السماء تتدخل تحديدا حين تغيب كل قوة أخرى. وحتى الإغريق، وهم من المشركين كانوا يعرفون القانون السماوي بأن من ترد الآلهة هلاكه تصيبه أولا بالعمى. وقد شهدنا العمى، والهلاك يتبعه حسب سنة إلهية لا تتخلف.
المصدر : القدس العربي