مقالات

علي ملحم – لعنة المنظمات في سورية: «هيك بده الدونر»

في إحدى الدعوات على «الفايسبوك» والمعنونة «هيك بده الدونر»، تتهكم مجموعة من الشباب السوري على طبيعة وآلية العمل التي تقوم عليها المنظمات غير الحكومية العاملة في الشأن السوري، وتجعل من طلبات وشروط المانحين لهذه المنظمات موضوعاً للسخرية والنقد.

وهذه ليست المرة الأولى التي يعرب فيها الكثير من الشباب السوري العامل في قطاعات المنظمات غير الحكومية عن استيائه من طريقة عمل هذه الأخيرة وكيفية تعاطي المانحين معها. وقد كثر النقاش حول هذه القضايا مؤخراً نتيجة لتحول القسم الأكبر من العاملين والناشطين في مجال الثورة، إلى عاملين وناشطين في قطاع المنظمات غير الحكومية. ويبدو أن هذه الأخيرة مثلت لعنة على الأولى من حيث تجريد الثورة من قواها، حيث حولت أغلب الثوار مجرد موظفين يعملون وفقاً لرؤى واعتبارات المانحين، جاعلين من رؤاهم واعتباراتهم الخاصة تهكماً رمزياً بعيد المنال، ومبرراً للقبول بالشروط المفروضة عليهم في بيئة العمل.

بدأت هذه اللعنة، والتي ستسم الحراك الثوري السوري في أغلب مراحله وتطوراته، منذ البدايات الأولى للانتفاضة السلمية. فمن المعلوم جيداً أن الانتفاضة انطلقت مما يقرب العدم، من حيث التحضير السياسي والإعلامي والاقتصادي وحتى الفني، ولم يكن الشباب السوري الذي انخرط في الثورة يمتلك تلك المفاتيح الضرورية لتطوير أدواته ذاتياً. فمثلاً، لا يشكل الذين كانوا على دراية باستخدام الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في سورية قبل 2011 نسبة تتجاوز 10 في المئة من السكان (وفق تقديرات غير إحصائية). هنا كانت الحاجة لكل هذه العدة الثورية، من وسائل اتصال وإنترنت وتصوير وإعلام ذات أهمية لاستنهاض الثورة وتصييرها. وهنا بدأت لعنة هذه المنظمات. فقد كان الكثير منها الذي يقدم الدعم لناشطي حقوق الإنسان وشبكات الإعلام الثورية، يفرض منطقاً وفكراً خاصَّين به على كيفية الإخراج الذي يجب أن تتأتى عليه مظاهر الثورة. ولا يخفى دور المال السياسي الموجه والقابع خلف أجندات هذه المنظمات التي، إن لم تكن حكومية، فإنها في شكل أو آخر ذات علاقة وطيدة بحكومات ومصالح دول عظمى.

لكن ما يقرب العدم هذا قبل الثورة لم يكن الحاجة الوحيدة التي دفعت بناشطي الثورة وعمالها لقبول هذه اللعنة والامتثال لها. فلا تخفى علينا الحاجة التي فرضتها ظروف الوضع السوري، وفظاعة الوحشية التي استخدمتها قوى النظام وشبيحته، مما أدى إلى وجود حالة غير مسبوقة من النزوح والتشرد واللجوء والدمار مما يحتاج إلى جيوش كاملة لا يستهان بها للتعامل معه على الصعيد الإنساني قبل أي اعتبار. هنا تحول القسم الأكبر من قوى الثورة وناشطيها، إلى عمال للإغاثة والمساعدة الإنسانية لسد الهوة الكبيرة التي أخذ المجتمع السوري يعاني منها خاصة بعد النصف الثاني من 2012، بعد تفجير «خلية الأزمة»، والذي شهدت بعده دمشق العاصمة أكبر موجة نزوح وتشرد خلال الثورة، ومن ثم تصاعد العنف والصراع في سائر المناطق السورية، ما دفع الى مشكلة النازحين بوصفها تحدياً إنسانياً قبل التحدي السياسي المتمثل بالصراع السلمي أو العسكري مع النظام. وهنا أيضاً كان للمنظمات غير الحكومية دورها في توجيه طريقة التعاطي مع هذا التحدي وفقاً لرؤاها واعتباراتها، وليس وفقاً للحاجة السورية وحاجة الثورة. فمن المثير للسخرية، مثلاً لا حصراً، أن منظمة معينة لا تقدم الدعم إلا لما يدعى «مشاريع الدعم النفسي الاجتماعي لأطفال النازحين»، في حين أن الدعم الحياتي، بالماء والخبز كأضعف الإيمان، لم يكن حتى موجوداً لهؤلاء الأطفال أو أُسرهم.

هذا الافتراق بين ما يحتاجه الوضع السوري وما تراه هذه المنظمة حاجةً لم يكن وحده ما هدد الثورة خصوصاً والمجتمع عموماً بالدخول في مستنقع مال الداعمين والمانحين والمنظمات والمؤسسات الخيرية، بل كان التتويج الأهم له الافتراق الوجودي للناشطين والثوار السوريين الذين تعاملوا مع هذه المنظمات وعملوا معها من منطلق الحاجة والضرورة الإنسانية، عن الواقع والضرورة السورية. فقد تحولت هذه القوى من ناشطين وعمال إغاثة إلى مجرد موظفين ومرؤوسين في المنظمات غير الحكومية، وإلى محكومين بعلاقات الوظيفة والعمل. وهنا لم يعد مهماً بالنسبة لهؤلاء ما يحتاجه السوريون، فأي حاجة ليست ذات أهمية قياساً بما يطلبه المانح والجهة الداعمة من «ضرورات لتحسين الوضع النفسي لأطفال النازحين وتعزيز قضايا الشفافية والتمكين للمرأة السورية ورصد الآليات المهمة لنشر الوعي حول قضايا العدالة الانتقالية وحلّ النزاع»، في حين أن ضرورة البقاء على قيد الحياة من قصف البراميل والهاون والجوع وانعدام مياه الشرب وتفشي الأمراض بسبب تعطل القطاع الصحي… كلها ضرورات مؤجلة إلى حين.

لم تكن هذه اللعنة سوى عملية مركبة من الحاجة والضرورة والارتهان المبرر أحياناً وغير المبرر في الأحيان الأعم، بسبب فظاعة العنف في الصراع السوري. ولم يكن أمام الناشطين الذين تحولوا عمال إغاثة ومن ثم موظفين في منظمات غير حكومية، بعد هذا الاستنقاع في الحرب الأهلية الطائفية، سوى القبول، وإن لم يكن بطيب خاطر بل بمسحة تهكم أحياناً، بهذه المشاريع والضرورات التي تحددها هذه المنظمات. ففي النهاية، «هيك بده الدونر».

المصدر : الحياة 

زر الذهاب إلى الأعلى