لا تترك الخطوات المتتالية التي تقوم بها قيادة حركة أحرار الشام الإسلامية في سورية مجالًا للشك أنّها تسير باتجاه محدد يهدف إلى “إعادة التموضع” في الخارطة الداخلية، بما يعيد تأهيلها إقليميًا ودوليًا، وربما ينقلها في مربّعات التصنيف الغربية من حيّز الحركات المتطرفة (ذات العلاقة الملتبسة مع القاعدة) إلى الحركات المعتدلة المؤهلة لأن تكون شريكًا في الحرب الدولية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”.
التغيرات التي بدأت تطرأ على حركة أحرار الشام خلال الأسابيع الماضية تمثّلت أولًا بمقالين لافتين لمسؤول ملف العلاقات الخارجية في الحركة، لبيب النحاس، في صحيفتين غربيتين مهمتين: الواشنطن بوست والديلي تلغراف، ينفي فيهما أي علاقة لحركته بالقاعدة، ويؤكّد استعداد الحركة لقتال تنظيم الدولة الإسلامية، ويصفها بأنّها حركة إسلامية معتدلة.
ثم في اليوم التالي لهذه المقالات بدأت عملية التطهير الداخلي ضد التيار المتشدد في الحركة، قام أميرها هاشم الشيخ بإصدار تعميم يعلن فيه عزل القائد العسكري للحركة المكنّى بأبي البراء معر شمارين، وقام بحل هذه القوة بشكل كلي، كما تضمن التعميم تعيين أبي محمد الغاب قائدًا للقوة المركزية الجديدة في الحركة، والتي سيطلق عليها اسم “القوة المركزية – كتائب صقور الشام”، وتكليفه بتشكيل فريق إدارتها.
قبل ذلك، كانت الحركة قد تبنّت شعار “ثورة شعب” ليوضع تحت رايتها وفي مقرّاتها، في محاولة للتأكيد على انتمائها السوري والتزامها بأهداف الثورة، وعدم التزامها بأيّ جانب أو بعد دولي أو إقليمي مرتبط بالقاعدة تحديدًا.
وبعد تصريح لوزارة الخارجية الأمريكية يشير إلى صلة ما بين الحركة وتنظيم القاعدة، سارعت قيادتها قبل أيام إلى إصدار بيان تؤكّد فيه عدم وجود أي ارتباطات خارجية لها، وفي مرحلة لاحقة تمّ فصل الشيخ المصري “أبو شعيب”، الشرعي في الحركة، بعدما خالف توجهاتها الأخيرة.
إلا أنّ التطوّر الأخير الأكثر أهمية تمثّل في إصدارها بيانًا تعلن فيه نيتها “إعادة هيكلة الجناح العسكري ليكون نواة جيش نظامي، وبدء تشكيل القوة المركزية النظامية” تحت مسمى “صقور الشام”. ودعت الحركة من تتوافر فيهم الشروط للانتساب إلى الجيش الجديد، وقد وضعت من بين الشروط “التفرغ كليًا للعمل في القوة المركزية والالتزام بالعمل في أي منطقة تقتضيها مصلحة الجهاد”، أيّ إنّ هنالك تحولًا باتجاه تأسيس جيش محترف منظّم بصورة أكبر. وقد تعهدت الحركة بمنح المنتسب راتبًا شهريًا مقداره 150 دولارًا أمريكيًا مع تأمين عائلته من مواد الإغاثة.
هذه التطورات المتتالية والمتسارعة والمكثفة تؤشر على تحولات مهمة ومفصلية في مسار الحركة التي كانت تصنّف تقليديًا بوصفها امتدادًا للسلفية الجهادية أيديولوجيًا، لكن بصبغة محلية، ولم تخلُ بالفعل -في البداية- علاقتها مع القاعدة من وجود “منطقة رمادية ملتبسة”، بخاصة مع وجود شخصية أبي خالد السوري، الذي كان يعدّ بمثابة المبعوث الرسمي لأيمن الظواهري، ومن أبرز المقربين إليه، وقد قُتل على يد تنظيم الدولة الإسلامية (أذار 2014) بعدما احتدم الخلاف بين هذا التنظيم وجبهة النصرة.
كذلك الأمر، كان الصف القيادي الأول في أغلبه ينتمي إلى الجهادية السورية، وقريبًا من خطّ القاعدة، وربما ما ساعد في التحولات الأخيرة هو مقتل هذه القيادات جميعًا (45 قياديًا) في تفجير المقر السري، الذي كانوا يجتمعون فيه (أيلول من العام الماضي)، وفي مقدمتهم حسان عبود (أمير الحركة ومؤسسها)، والقائد العسكري للحركة أبو طلحة، وعضو مجلس شورى الحركة وأمير حلب سابقًا أبو يزن الشامي، والمسؤول الشرعي للحركة “أبو عبد الملك، وقادة كتائب آخرون في الحركة.
بالرغم من ذلك، فمن الضروري الإشارة هنا إلى أنّ التحولات والتغييرات بدأت تسير ببطء لدى حركة أحرار الشام، حتى لدى الجيل القيادي السابق، وقد وقعت الحركة ميثاق الشرف الثوري مع فصائل إسلامية أخرى في شهر أيار 2014 (أي قبل التفجير الذي أدى إلى مقتل قياداتها) وأعلنت فيه التزامها بتحرير سورية وإسقاط الأسد، ورفض الغلو والتطرف، واحترام حقوق الإنسان، والسعي إلى إقامة دولة العدل والقانون والحرية، وهو مصطلح أكثر مواربة من تعريف الحركة لنفسها في ميثاقها الأساسي الذي يتضمن “بناء دولة إسلامية، تكون السيادة فيها لشرع الله -عز وجلَّ- وحده مرجعًا وحاكمًا وموجهًا وناظمًا لتصرفات الفرد والمجتمع والدولة”.
أثار ميثاق الشرف الثوري خلافًا حادًا بين فصائل الجبهة الإسلامية التي تشكّلت من أحرار الشام وفصائل أخرى حُسبت على وصفة خليطة من الحركة الجهادية والحركية، لكن الظروف لم تمهل الحركة فترة طويلة من الوقت للتدرّج في مسار جديد بدأت معالمه تظهر على بعض ألسنة قياداتها الأولى، مثل أبي يزن الشامي، قبل أن يقتل.
في النصف الأول من العام الحالي (2015)، بدت الحركة في طور التراجع والخمول والتفكك، مع وجود أقاويل عن انشقاق نسبة من أتباعها والتحاقهم بتنظيم الدولة الإسلامية؛ إلّا أنّ الصورة تغيّرت تمامًا في آذار من العام الحالي، مع تأسيس جيش الفتح، الذي ضمّ حركة أحرار الشام وصقور الشام مع جبهة النصرة وفصائل أخرى، في محافظة إدلب، وتمكّن التحالف الجديد من تحقيق انتصارات سريعة ونوعية وتحرير محافظة إدلب بالكامل من الجيش السوري، ثم برز دور أحرار الشام مرّة أخرى في تولّيها عملية المفاوضات مع الإيرانيين في منطقة الزبداني، بتفويض من الفصائل المختلفة.
العودة القوية لأحرار الشام ثم التغييرات الهيكلية في الخطاب الأيديولوجي والبنية التنظيمية، تتزامن مع التحول في الموقف التركي؛ بل يربط أغلب المحللين والمراقبين السياسيين تحولات الحركة وتطورها بالرعاية التركية بدرجة أولى والقطرية بدرجة ثانية. فتأسيس جيش الفتح -على سبيل المثال- جاء بعد أن توطّدت العلاقات التركية-السعودية-القطرية واتُخذ قرار من هذه الدول الثلاث بإعادة بناء ميزان القوى داخل سورية، بعدما تدهور في الفترة السابقة لصالح النظام السوري؛ بسبب النفوذ الإيراني، وتمّ توفير الشروط الملائمة لتقوية التحالف الجديد (جيش الفتح)، فحقق انتصارات ملحوظة، ثم جرت المحاولات التركية-القطرية لإعادة تأهيل جبهة النصرة، عبر توطينها وقطع علاقاتها مع القاعدة، لكن تلك المحاولة بدت معقّدة وصعبة، سواء على الصعيد الداخلي (في جبهة النصرة) أو على الصعيد الدولي (صعوبة تقبل المجتمع الدولي لهذه الخطوة)، الأمر الذي يبدو اليوم أقل تعقيدًا بالنسبة إلى أحرار الشام.
البعد التركي في التحولات الأخيرة لدى أحرار الشام يظهر في التغيرات التي طرأت على الموقف التركي تجاه تنظيم “الدولة الإسلامية”، والتحضير لما يسمى المنطقة “الخالية من داعش”، على الشريط الحدودي، وهي الخطوة التي أعلنت حركة أحرار الشام تأييدها لها، ما تزامن مع مقالات النحاس وإعلان الحركة عن استعدادها لمواجهة تنظيم الدولة؛ ما يشي بأنّ الحركة تقدّم نفسها شريكًا للأتراك والأمريكيين في المعركة الداخلية في سورية.
ثمة ملمح آخر ما يزال رفيعًا وغير واضح يشير إلى الترتيبات التركية، يتمثّل في الحوار الذي أجراه المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين مع صحيفة العهد (التابعة للمكتب الإعلامي لجماعة الإخوان) وفيه تلميح بأنّ هنالك قواسم مشتركة متعددة بين حركة أحرار الشام والإخوان المسلمين، ما دفع بمراقبين إلى توقع نوعًا أكبر وأعمق من التعاون بين الحركتين، وهي المؤشرات التي حاولت جماعة الإخوان المسلمين التقليل منها في توضيح لاحق لتلك لتصريحات المراقب العام للجماعة!
في المحصلة، من الواضح أنّ قيادة حركة أحرار الشام قد حسمت أمرها أخيرًا وقررت الخروج من “المنطقة الرمادية” والمضي نحو التوطين الكامل مع إعادة هيكلة خطابها الأيديولوجي بصورة بنيوية، لكن مع ذلك يبدو أنّها تهرب من “منطقة رمادية” لتقع في “رمادية أخرى”، فالأمور ليست بهذه السهولة؛ إذ تجد الحركة نفسها أمام تحديات أساسية ورئيسة لا تقل عن التحديات السابقة إن لم تتجاوزها، وفي مقدمة ذلك سؤال التماسك داخل الحركة وقدرتها الصلبة على إقناع آلاف الأعضاء بهذا التوجه؛ فالمسألة تتجاوز الإطاحة بالتيار المتشدد أو الأيديولوجي للسيطرة على الخلايا والمجموعات الشبكية الموزعة في أكثر من مكان.
وإذا كان العنصر الأجنبي (المتطوعون من الخارج) بمثابة نسبة بسيطة محدودة في الحركة، فإنّ هنالك نسبة كبيرة تشرّبت الأيديولوجيا السلفية الجهادية، وربما لا تمتلك العقيدة القتالية لخوض معارك شرسة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وهذا يوضّح لنا الفرق الكبير الملحوظ بين الانتصارات الهائلة التي حققتها الحركة ضد الجيش السوري وتراجعها في المعارك ضد تنظيم الدولة، وهو ما يفسّر أيضًا إصرار البيان الأخير للحركة في عملية إعادة الهيكلة وتأسيس جيش نظامي على اشتراط التفرغ والموافقة على القتال في أي منطقة تحددها الحركة.
التحدي الثاني، الذي لا يقل أهمية، يتمثّل في شبكة تحالفات الحركة، وتحديدًا في علاقتها الوطيدة مع جبهة النصرة، عبر جيش الفتح؛ فالتوجهات الجديدة قوبلت بهجوم قاس من المرجعيات الروحية والفكرية للنصرة، مثل أبي قتادة الفلسطيني وأبي محمد المقدسي وسامي العريدي، وليس واضحًا بعد فيما إذا كان هنالك خيط من التفاهمات السرية بين التنظيمين، غير معلن، بخاصة مع الجناح السوري المرن في النصرة، أم أنّ هنالك مسافة وفجوة تتسع بين الطرفين؟!
التحدي الثالث، يتمثّل في مدى قبول الإدارة الأمريكية والغرب لإعادة تعريف أحرار الشام والموقف منهم، وهو تحدٍّ يبدو أقل تعقيدًا وسهولة مما سبقه؛ فالأمريكيون يبحثون عن شريك على الأرض لمواجهة تنظيم الدولة، ولو مؤقتًا، كما حدث في الصحوات العراقية، وربما تجربة الجيش الإسلامي وحماس العراق نموذج للتحول الممكن في موقف حركة أحرار الشام، لكن الشروط الأمريكية تذهب نحو “خلق صحوات جديدة” في سورية، وهي التجربة التي لا تبدو مشجّعة لأي فصيل إسلامي سوري، بخاصة عند النظر إلى ما حلّ بصحوات العراق من استهداف مزدوج من قبل تنظيم الدولة من جهة والنفوذ الإيراني من جهة أخرى، لكن على أيّ حال، ثمة وسيط مهم في العلاقة بين الأمريكيين والأحرار، وهم الأتراك أولًا والقطريون ثانيًا.
لا تبدو المسارات القادمة لأحرار الشام واضحة وجلية تمامًا؛ فهم اتخذوا قرارًا حاسمًا بفك أي ارتباط مع القاعدة، وبتوطين الحركة تمامًا، وبإعادة هيكلة الخطاب الأيديولوجي بما يتناسب مع الضمانات الدولية والإقليمية، وراهنوا على علاقتهم بالأتراك والقطريين؛ لما يمكن أن توفّره من دعم جيد لهم ماليًا ولوجستيًا، لكن الشروط التفاوضية حول موقع الحركة في المرحلة القادمة ودورها ما تزال غير واضحة، وقدرة الحركة على التماسك الداخلي مسألة فيها نقاش، والأهم من هذا وذاك علاقتها مع حليفها الاستراتيجي “النصرة” بحاجة إلى إعادة تعريف بين الطرفين أولًا، وفي سياق المعادلات الدولية والإقليمية ثانيًا!
المصدر : التقرير