مقالات

عبيدة عامر – لماذا كانوا في الخزان أصلا؟

لا يخطر ببال قارئ خبر موت الـ71 مهاجرًا –معظمهم سوريون– ببراد لنقل الدجاج على حدود النمسا أثناء محاولتهم دخولها سعيًا لطلب اللجوء، وبحثًا عن ظروف أفضل للحياة –أو لنقل عن الحياة نفسها–، سوى جملة غسان كنفاني –الذي تصادفت الحادثة قبل ذكرى اغتياله بأيام–، في رائعته “رجال من الشمس”، التي تقول: لماذا لم يطرقوا جدران الخزان؟!

ومع أن السؤال المطروح من كنفاني هو من باب المفارقة والمبالغة والتكثيف الروائي –التي استقاها من حوادث هجرة الفلسطينيين إلى الكويت في تلك الفترة عبر صحراء العراق، والشبيهة بهجرات السوريين والعراقيين والفلسطينيين إلى أوروبا عبر المتوسط-؛ إلا أنه، واقعيًا، كما الحادثة التي حصلت، قد يحتمل كثيرًا من الإجابات: ربما لم يطرقوا، وربما طرقوا ولم يسمعهم أحد، وربما سمعهم وأراد “أبو خيزران” الذي رافقهم أن يقتلهم –وهو الغالب بحسب التهم الموجهة إليه-.

هذا السؤال يكثف، ولو بغير وعي، على أولئك المهاجرين المسؤولية اللحظية لموتهم شخصيًا –وهو جزئي–، ويتناسى مع كثرة تداوله السياق العام والمسببات التي جعلت 71 شخصًا في هذه الظروف الاستثنائية الزمانية والمكانية، طارحة السؤال الأشبه بالروايات: لماذا كانوا في الخزان أصلًا؟!

ربما نتجنب جميعًا طرح هذا السؤال؛ لأنه يتجاوز المسؤولية الجزئية للمهاجرين عن مقتلهم بهذه الطريقة المأساوية، إلى حلقات أكبر؛ تمر بقاتليهم المباشرين، سواء كانوا السائق ومعاونيه، أو الأسد وميليشياته الذين أوصلوهم إلى هذه المرحلة، وغير المباشرين، سواء أكانت تلك البلدان التي أصبحت إنسانية فجأة، أو تلك التي تهربت من مسؤوليتها، وتتسع حتى تصل إلى كاتب هذه السطور وقارئها.

تبدأ أوديسا هؤلاء المهاجرين ومأساتهم من الأسد وميليشياته الطائفية، ومن ورائها داعموها الدوليون، وتحديدًا إيران وروسيا، التي دمرت البلاد، وقتلت وشردت وجرحت ما لا يقل عن 12 مليون شخص، بكل أنواع الأسلحة التقليدية –من صواريخ ودبابات وقنابل ومتفجرات-، وغير التقليدية –من قنابل عنقودية وبراميل متفجرة وسلاح كيميائي–، في سياسة تهجيرية طائفية، ووحشية لم تتوقف يومًا واحدًا منذ أربع سنوات؛ فأجبرت السوريين على مغادرة بلادهم بحثًا عن الحياة.

أولئك الذين خرجوا من بيوتهم، مجبرين، –أربعة ملايين خارج البلاد، وسبعة داخلها–  توجهوا إلى أقرب البلدان إليهم، وهي تركيا ولبنان والعراق، وباستثناء الأولى – التي سمحت لهم بالعمل والدراسة والعلاج ، لقدرتها على ذلك–، فلم توفر البلدان الأخيرة سوى المسكن –أو شبهه– في المخيمات التي أقامتها الأمم المتحدة، والتي بدأت تعاني من ضعف في التمويل، واضطرت لأن تقطع على كثير من المحتاجين أساسيات الحياة من غذاء ودواء، في دول تعاني في الأساس من ضغط اقتصادي عالٍ، واستقطابات اجتماعية كبيرة؛ مما دفع حكومات هذه الدول لمنع اللاجئين بالعمل بشكل قانوني، مما أغلق الأفق مجددًا عليهم، ودفعهم للبحث، مجددًا، عن الحياة.

البلدان المحيطة في الحلقة الأوسع من هذه البلدان، وهي دول الخليج تحديدًا، المقتدرة ماديًا، اكتفت بالدعم الإنساني والمادي عن بعد، والدعم العسكري –المحسوب– لبعض الأطراف، مع تضييق كبير للأبواب في وجوههم للعمل أو للإقامة أو للدراسة –حتى وصلت لرفض تأشيرات الزيارة أو العمرة-؛ مما أطال عمر الأزمة دون حل جذري لها، أو إيجاد حلول واقعية عملية للاجئين الذين لا يستطيعون العمل في أماكن تواجدهم، وفي الوقت نفسه لم تعد المنظمات الإنسانية والمجتمع الدولي قادرة على دعمهم، وسدت في وجوههم أبواب الدول المحيطة بهم، مما اضطرهم للبحث مجددًا، ولو عن طريق الموت، عن الحياة.

جدير بالذكر أن المجتمعات المستقبلة لللاجئين في هذه البلدان أظهرت، بالغالب وباستثناء بعض الحالات الفردية أو الاستثنائية التي لا مفر منها مع هذا الضغط، حسًا إنسانيًا وبطوليًا عاليًا باحتضانها اللاجئين ومنحهم ما يستطيعون في قصص أشبه بالبطولات، لكن الإشكالية ليست في المنح اللحظي، وإنما في توفير الفرص أو الإمكانية المستقبلية للعمل والاستقلال الذاتي، كي لا تتفاقم الأزمة على كل من الضيف ومستضيفه، وهو ما لم يتوفر، ولا يمكن أن يتوفر إلا عن طريق التشريعات القانونية، والتسهيلات العملية التي تملك زمامها، بالكامل في الدول العربية، الدولة.

إذن؛ فبعد أن سد الأفق على اللاجئ تمامًا في بلده، وحوله، وحوله، لم يجد بدًا إلا أن يجرب الموت المباشر –وهو الذي يجرب غير المباشر كل يوم بكل أشكال الحاجة والضعف وانتهاك الكرامة– لكي يحيا. اللاجئ الذي كان مستعدًا أن يموت لأجل بلده لكنه لم يكن يتوقع أن يعيش يومًا ما بين الموت والحياة؛ فاضطر أن يفكر بهذا الجنون، وهذه الحكايا الأشبه بالروايات التي لا تصدق، خصوصًا بعد أن سهلت له مافيات المهربين –التي يرتبط جزء منها بالدول، كمصر وليبيا لتنفيذ سياساتها– الطريق مقابل المال وتجربة الموت اللحظية، وفتحت له الأرض الأخرى أبوابها إن نجح في الوصول إليها.

في هذه الجزئية تحديدًا تكمن كذبة كبرى، تبرئ الغرب من مسؤوليته، وتظهره على أنه الإنساني الحنون الوحيد في كل هذه الرحلة المبكية من الموت والدمع والملح. هذه الكذبة لا تعتمد فقط على أن أوروبا وأمريكا هي التي ثبتت، تاريخيًا، هذه الأنظمة التي سببت خروج اللاجئين حتى وصلوا إليها؛ ولا أنها كذلك ثبتت، لحظيًا، هذا النظام كشرٍ أقل، لتثبيت مصالحها وأمنها الاستراتيجي في المنطقة، وكانت هي السبب الذي أدى لخروج المسوخ الشبيهة بداعش وغيرها، وعبر تركها للأسد وميليشياته وهي تعيث فسادًا ودمارًا، وعقدها اتفاقاتها التاريخية معه؛ بل لأنها كذلك لا تعمل لوجه الله كمنظمات خيرية، بل تستفيد من المهاجرين كقوة عاملة حاليًا، وقوة بشرية مستقبلًا، وقوة معنوية ورمزية دوليًا، عبر تثبيتهم لديها، خصوصًا مقابل التكلفة القليلة نسبيًا عليها عند مقارنتها بقدرات هذه الاقتصادات الهائلة، والمجتمعات المرتاحة، والأراضي الواسعة!

وفي هذه الرحلة الطويلة من الخسائر، ليس الخاسر الأكبر هو اللاجئ، وحسب، الذي خسر حياته وكل ما يملك حتى وصل به الأمر إلى هذه المرحلة؛ لكنها البلاد والقضية التي تخسر شبابها الذين تحتاجهم، في المنافي والبحار ومخيمات اللجوء البعيدة، للأبد.

“لماذا لم يطرقوا جدران الخزان؟”، هذا السؤال لن يستطيع إجابته إلا هم، أما لماذا أصبحوا في الخزان أصلًا؟، فهذا سؤال يوجه لي ولك ولمن أخرجهم ولمن ساهم في إخراجهم ولمن صمت على إخراجهم ولمن اضطرهم للخروج، حتى أوصلهم إلى البراد في النمسا، ثم لم يخرجهم منه إلا إلى السماء!

المصدر : التقرير 

زر الذهاب إلى الأعلى