هل خطر في بال غسان كنفاني أن قصة “رجال في الشمس” ستجد طريقها إلى الواقع بصيغة باردة؟ .. لا، لا، لا مفاضلة في الموت، فكما كان ضحايا أبو الخيزران متجهين إلى جنة البترول الكويتية هربًا من التشرذم الفلسطيني، كان ضحايا شاحنة الموت البارد الأنيقة فارين من ليل دمشق الذي طال ومن سحاب سوريا الذي ما جف من الرماد إلى جنة الحق الأوربية، وكلتا الجنتين آتت أكلها للعمامة والجنرال وتاجر البندقية لكنها ظلمت منه الكثير للمقهور، ثم ما الفرق بين الموت اختناقًا في صهريج وقود يعبر الصحراء والموت تجمدًا في شاحنة مبردة مخصصة لنقل لحوم الدواجن؟
أتذكر الفزع الذي أصابني أول ما قرأت “رجال في الشمس” وحاولت أن أتخيل نفسي مكانهم لكن رهابي من الأماكن المغلقة وحساسيتي تجاه الروائح القوية والحرارة المفرطة جعل عملية التخيل هذه كابوسًا في حد ذاته، حتى إنني أظن أني فضلت الموت في القطب الشمالي أو في سيبيريا على الموت في الصحراء إذا ما خيرت بين الأمرين، وضعية ذكرني بها سنوات بعد ذلك السؤال الوجودي الذي طرحته علي طالبة ألمانية ذات يوم: “هل يتصور المسلمون جهنم باردة أم ساخنة؟”
الفرق الوحيد بين رجال قضوا في الشمس وبين رجال ونساء وأطفال قضوا في الثلاجة أن الأوائل يذكر الكل أسماءهم -ولو أنهم من نسج خيال كاتب-: العجوز أبو قيس والشاب أبو أسعد والصغير مروان، وستظل أسماؤهم الصرخة المكبوتة التي صدح بها الأدب في وجه السياسيين وجنرالات السلاح الفاسد وتجار البشر، أما الذين قضوا في الثلاجة فلا أسماء لهم: رقم وثلاثة عشرة كلمة في قصاصة أخبار إلكترونية تحترم المعايير المهنية للتحرير الصحفي “:
العثور على 71 جثة أغلبها لسوريين في شاحنة على طريق سريع بين النمسا والمجر
.. تضعط على الرابط فيرمي بك إلى الموقع وأول ما يظهر على شاشتك صورة لرأس دجاجة على البوابة الخلفية لشاحنة وكتابة باللغة الألمانية جنبها وعلى يسار الشاشة وأعلاها أخبار لا علاقة لها بما سبق، في إطار المزج بين الأنواع وإضفاء الطابع الميلودرامي على المشهد:
– نحن نحب ألمانيا: حملة سورية لشكر ميركيل؛
-عربة أطفال ذكية تلحقك أثناء التسوق، ما رأيك بها؟
– “الطاكسي “البينك” للسيدات في مصر، فكرة تثير سخرية الرجال.
– “غارة أمريكية تقتل العقل الإلكتروني لداعش في الرقة في سوريا …” (لا يحزنكم الموت في ثلاجة، فإننا ننتقم من الأشرار)
… وتفصيل صغير، قليل من الدراما لكي يكون المشهد إنسانيًّا بعض الشيء: “وكانت دورية نمساوية عثرت عند مرورها على الطرق السريعة على الشاحنة البراد قرب الحدود المجرية قبل ظهر الخميس. وكانت السوائل من الجثث المتحللة تتسرب من بابها الخلفي.”
يبدو أن سائق الشاحنة قد عطل آلة التبريد قبل أن يهرب! بطبيعة الحال لن يطرح سؤال أبي الخيزران “لماذا لم تقرعوا جدران الخزان”، لأنه يعلم أن خزان شاحنته المبردة صنع من مواد صماء، ألومنيوم وحديد ومواد إسفنجية بلاستيكية عازلة للحرارة لن تسمع صوت القارعين الكثر حتى لو أضاف الله إلى أعمارهم أعمارًا، وحتى لو طرح السؤال، فإن الطريق السيار لن يردد وراءه السؤال كما رددته الصحراء وراء أبي الخيران..
لا أظن أنه فتح الباب الخلفي لشاحنته مثلما فعل الفاشل أبو الخيزران عندما فتح فوهة الخزان وانزلق إلى داخله ليكتشف هول الحياة ورائحة الموت وفُجَاءته، ومن ذلك المشهد المروع للمساكين الثلاثة صورة لم تغادر بال أبي الخيزران وهي صورة الصغير مروان. فماذا لو أن سائق شاحنة التبريد فتح الباب الخلفي؟ ببساطة لم يكن باله الهادئ سيحتفظ بصورة لأحدهم لأنهم مجهولي الهوية ولأن أجسادهم تحللت وسالت مياهها ولم يكن ليفكر في دفنهم أو حتى رمي أجسادهم في الغابة لأن الوقت في أوربا لا يقدر بثمن.
اكتفى الرجل بحمل أمتعته الصغيرة وإخبار مشغله وتعطيل آلة التبريد حفظًا للطاقة، وأغلق باب الشاحنة وغادر بكل مهنية.
على أي حال، لا فرق بين الموت في الصحراء والموت في الصقيع، لأن أبا الخيزران عندما انحنى ووضع أذنه على “الصدر الذي يغطيه الشعر الرمادي المبتل كان الجسد باردًا وصامتًا”.
المصدر : هافينغتون بوست عربي