مقالات

غازي دحمان – تقسيم سوريا بمساعدة عربية

فيما لا يزال البعض يتحدث عن احتمال تقسيم سوريا ويجادل البعض باستحالة تحقق مثل هذا الاحتمال نظرا لاعتبارات جغرافية ووطنية، فإن نظام الأسد قد أنجز على الأرض الجزء الأكبر من المهمة التي صارت حقيقة مكرسة بحدود من تضاريس وخطوط من نار وحراس وسكان.

لمسات قليلة باقية ويخرج الأسد في مقابلة تلفزيونية ويعلن للعالم استعداده للتفاوض على هذه الأوضاع وبالشروط التي يريدها، وفي تلك اللحظة ستهرع طهران ومن خلفها موسكو إلى تسويق الفكرة دوليا بوصفها الحل الأمثل لمشكلة سوريا.

وإلى ذلك الحين يبقى قسم كبير من السوريين وبعض العالم الخارجي يتلهى تارة بالنسب التي يصدرها الإعلام العالمي عن توزع المساحات بين المقاتلين على الأرض وبعضها يقول إن الأسد يحكم فقط ما نسبته 18% من مساحة سوريا الكلية، وتارة يتلهون بألعاب السيرك الروسية المسماة مفاوضات بين الأطراف والتي تتعمد روسيا زيادة حالة الالتباس فيها عبر حديثها عن دعمها لمؤسسات وليس لأشخاص بعينهم.

“لمسات قليلة باقية ويخرج الأسد في مقابلة تلفزيونية ويعلن للعالم استعداده للتفاوض على تقسيم سوريا وبالشروط التي يريدها، وفي تلك اللحظة ستهرع طهران ومن خلفها موسكو إلى تسويق الفكرة دوليا بوصفها الحل الأمثل لمشكلة سوريا”

كما تتلهى المعارضة بفحص حجم ومدى المتغيرات الحاصلة في مواقف الدول، إن لجهة إعادة ترتيب أولوياتها في الأزمة السورية، أو لجهة ثباتها على عدم مشاركة نظام الأسد في مستقبل سوريا.

أما عن مستقبل سوريا الحقيقي، فيبدو أن إيران وشركاءها باتوا مقتنعين أن صناعته تجري بالنار وبكثير من العنف والقسوة لا بكواليس السياسة التي لا بد أن تخضع لموازين القوة على الأرض في آخر المطاف وبالتشكلات الحاصلة جغرافيا وما تنطوي عليه من واقع ديمغرافي يكرس ديمومتها. وتطبيقا لهذه الرؤية يخوض تحالف إيران الأسد حزب الله حربا شرسة على عدة محاور يعتبرها الحدود الحقيقية لدولته المنشودة والتي سيفاوض عليها العالم قريبا.

على طول خط جغرافي يمتد من جنوب دمشق بما فيه جزء من سهل حوران مرورا بأجزاء من محافظة القنيطرة وصولا إلى الزبداني والقلمون حتى نقطة القصير، تمتد حدود الدولة التي يقاتل حلف إيران على تثبيتها غربا، يوازيها من الشرق طريق الأتستراد الدولي بين حمص ودمشق وصولا إلى حماة، لتضم بذلك دمشق وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس.

وكان رأس النظام قد أعلن أمام العالم انتقاله للقتال في هذه المنطقة باعتبارها ذات أهمية إستراتيجية أكبر من بقية الأرض السورية، وبالفعل فإن كل الفعاليات العسكرية والجهود الحربية باتت تركز في هذه اللحظة داخل هذه المناطق.

وبما أنه قد أنجز الجزء الأكبر من مهمته فإن جهوده تنصب على إخلاء دمشق وجوارها من الثوار والسكان بنفس الوقت، وهو يعتمد في ذلك خطة متدحرجة بدأت في القصير والقلمون ومستمرة الآن في الزبداني لينتقل بعدها إلى بقية غلاف دمشق الغربي “مضايا وسرغابا ووادي بردى” ثم بعد ذلك الانتقال إلى الغوطة الشرقية “دوما وعربين وجوبر” واستكمال احتلال ما تبقى من جنوب دمشق “التضامن ومخيم اليرموك وبيت سحم وببيلا”، وبالتزامن مع ذلك يقوم النظام بتفريغ دمشق من سكانها السنة عبر وسائل وآليات عديدة، وقد بدأ بالفعل بهذه الخطة حيث تنزف دمشق بشكل يومي المئات من عائلاتها.

مما لا شك فيه أن هذه الخطة ليست جديدة على نظام الأسد وطالما وصفها المراقبون بالخطة البديلة لديه في حال لم يستطع استعادة السيطرة على كامل سوريا، لكن ما سرع خطوات تنفيذ هذه الخطة هو السياسات الدولية وخاصة الأميركية المتساهلة مع إيران والتي تغيرت أولوياتها في الحدث السوري وباتت تنظر للأسد على أنه مشكلة ثانوية أمام خطر الإرهاب الممثل بداعش (تنظيم الدولة الإسلامية).

“تنصب جهود الأسد على إخلاء دمشق وجوارها من الثوار والسكان بنفس الوقت، وهو يعتمد في ذلك خطة متدحرجة بدأت في القصير والقلمون ومستمرة الآن في الزبداني لينتقل بعدها إلى بقية غلاف دمشق الغربي ثم الانتقال بعد ذلك إلى الغوطة الشرقية، واستكمال احتلال ما تبقى من جنوب دمشق “

وقد شكل هذا الأمر ضوءا أخضر لإيران وأذرعها للعبث بالجغرافيا والديمغرافيا السوريتين بذريعة حماية الأقليات حتى لو استدعى الأمر إجراء ترتيبات قسرية إن على مستوى وضع حدود فاصلة أو على مستوى تفريغ مناطق الأكثرية في سوريا وتعديل الواقع الديمغرافي بطريقة قسرية عبر آليات التهجير والقتل والترهيب، وبحسب تقديرات حديثة فإن المكون الأكثري في سوريا -والذي نزف منه حوالي خمسة ملايين نسمة- لم يعد يشكل أكثرية في المساحة التي يخطط حلف إيران إلى إقامة الدولة السورية الجديدة عليها، وخاصة بعد أن يتخلى عن حلب ودرعا.

تستثمر إيران وأذرعها الزمن الباقي من عمر إدارة أوباما لفرض الواقع الجديد في سوريا، كما تتظلل بالمناورات الروسية التي توفر لها وقتا مستقطعا لتحقيق هذا الأمر من خلال قبول الأطراف المحلية والإقليمية الانخراط في اللعبة الروسية التي ليس لها هدف واقعي واحد إلا ضمان التغطية على أهداف نظام الأسد في تقسيم سوريا.

لقد ساهمت أخطاء فصائل المعارضة بدرجة كبيرة في هذه الخلاصة الأليمة، ذلك أن ضعف التنسيق وارتهان بعضها لقوى خارجية ومراعاة حسابات تلك القوى، كل ذلك كان عنصرا مساعدا لتنفيذ خطة إيران في سوريا، فقد تركت كل منطقة تواجه مصيرها منفردة دون أن تستفيد من إمكانيات فصائل الثورة التي تحولت مع الزمن إلى فصائل محلية وتحول قادتها إلى ما يشبه أمراء الحرب بدون وعي وإدراك شامل للواقع الذي تتحول إليه سوريا وبدون حسابات وطنية عميقة.

ولعل الجبهة الجنوبية خير مثال على هذه الحقيقة المؤلمة إذ تركت غرفة الموك تتحكم بمصيرها وعطلت فعاليتها تماما وتركت نظام الأسد يرسم الحدود والخطوط حسب ما يشتهي ويريد.

لكن ذلك أيضا حصل بتواطؤ عربي موصوف، كانت هناك فرصة لمنع تشكل هذا السياق وترسخه في الواقع السوري، وكانت هناك إمكانية لبناء إستراتيجيات ناجعة في مواجهة خطط إيران، وكانت الموارد البشرية وإمكانيات تحقيق الأهداف متوفرة، غير أن انعدام الرؤية والجرأة بالإضافة إلى الحسابات الضيقة ساهمت في تضييع الفرصة دائما.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ذلك أن النظام المصري ومنذ وصول عبد الفتاح السيسي للسلطة بذل كل إمكانياته لتغيير المعادلة في سوريا لصالح بقاء نظام الأسد وعلى كل المستويات الدبلوماسية والسياسية والعسكرية، كما عمل على تعميق انقسام المعارضة الوطنية، وقاد تيارا عربيا من عدة دول تؤيد بقاء نظام الأسد بذريعة الحفاظ على الدولة والمؤسسات ومحاربة التيارات الإسلامية المتشددة.

“يعمل نظام السيسي على تثبيت الصيغة التي تريد إيران فرضها في سوريا عبر إقامة الدولة الطائفية المنشودة، بالإضافة إلى سعيه لإعادة دمج بشار الأسد بدولته الجديدة في المنظومة العربية وإخراج الشعب السوري من ضمن تلك الدائرة”

أكثر من ذلك قدم مساعدات لوجستية وأمنية وعسكرية تساعد نظام الأسد في قتل السوريين وتهجيرهم وتفريغ سوريا من سكانها لصالح مشروع إيران، وحصل ذلك الأمر باعتراف بشار الأسد نفسه في لقائه الأخير مع قناة المنار وباعتراف قادة عسكريين مصريين بقيام نظامهم بإرسال شحنات الأسلحة إلى ميناء طرطوس.

واليوم يعمل نظام السيسي على تثبيت الصيغة التي تريد إيران فرضها في سوريا عبر إقامة الدولة الطائفية المنشودة، بالإضافة إلى سعيه لإعادة دمج بشار الأسد بدولته الجديدة في المنظومة العربية وإخراج الشعب السوري من ضمن تلك الدائرة، فهو إما مشتت وإما محاصر في مناطق لا دولة فيها.

والمفارقة في كل ذلك أن السيسي يدعي أنه ابن المشروع القومي الناصري، كيف جمع بين ادعائه القومية ودعمه الفعلي لمشروع تقسيم سوريا الذي تقوده إيران؟

هل بات تقسيم سوريا قدرا نهائيا وهل على السوريين القبول بهذا الواقع؟ نحن أمام مرحلة خطيرة، إمكانية استمرار الأسد في السلطة وتقسيم سوريا احتمال وارد بنسبة 50 %، وانتصار الثوار وعودة سوريا لوحدتها وارد بنفس النسبة.

إما أن يعبر الأسد هذه المرحلة ويشكل دولته وفق معطياته الخاصة، وإما أن يزول نظرا للأخطار الكثيرة التي تواجه نظامه وبنيته العسكرية، وسيتغلب أحد الخيارين وفق معطيات الوضع الإقليمي وحركة الثوار على الأرض، فالحدود ما زالت رخوة ومن الممكن تحطيم هذا التشكل الذي تصنعه إيران، بشرط أن يرفع الفيتو عن الكثير من الجبهات للتحرك وفق الحسابات السورية.

أما ترك المقادير تجري على أعنتها وفق الطريقة التي يجري العمل بها الآن فذلك يعني ترك قوات الأسد تتموضع في المناطق المشار إليها بحيث تتحصن بشكل جيد وتبني أنساقا دفاعية وتطرد حواضن الثورة، مما يجعل تعديل الأوضاع بعد ذلك أمرا مستحيلا.

المصدر : الجزيرة نت 

زر الذهاب إلى الأعلى