يجد البعض اليوم صعوبات في فهم ثنائية الأمة والطائفة في منطقة تغص بانقسامات متعددة: إثنية ومذهبية وسياسية، خاصة مع اشتعال أوار الصراع الطائفي الذي يصر على تحويل “أهل السنة والجماعة” إلى “طائفة” ضمن طوائف متماثلة في الوزن ومتصارعة في آن.
يجري ذلك إما تحت ضغط الصراع السياسي ومحاولات التجزئة والتفكيك، أو بدافع تصورات مشوهة عن حركة التاريخ الإسلامي وقاموسه الاصطلاحي والمفهومي حتى خيل إلى البعض أن “الأمة” مصطلح لا يمكن فصله عن فكرة الدولة/الأمة الحديثة.
ولذلك، وجد من المستشرقين المحدثين من يعجز عن فهم تعبير “الأمة الإسلامية” الذي يبدو له خياليا من بنات أفكار الإسلاميين الحركيين، ووجد من الكتاب العرب من يتوهم أن مقولة “السنة هم الأمة وليسوا طائفة” مقولة طائفية فقط، لأن “الأمة” عند بندكت أندرسن هي “الجماعة المتخيلة” وذات السيادة (أي لها سكان محددون وأراض متميزة عن أراضي غيرها من الأمم)، أي الجماعة التي توجد في عقول أعضائها.
ويرجع أساس الإشكال إلى الجهل أو تجاهل تاريخ الاجتماع الإسلامي والتاريخ الثقافي والديني لتشكل الجماعة الإسلامية من جهة، وإلى الارتهان إلى مفاهيم حديثة أنتجها السياق الأوروبي الخاص وفرضها على حاضرنا الذي تشكل على وقع المواريث الاستعمارية من جهة أخرى، وإلى تجاهل تطور مفهوم “الأمة” الأوروبي نفسه.
وبالعودة للقاموس الإسلامي نجد أن الطائفة والطائفية مفهوم سياسي حديث خاضع لكثير من التوظيف والغموض، وهو يرد في القرآن ثلاث مرات في المرحلة المكية للدلالة على الفئة القليلة من الناس ذات المنزع الواحد.
أما الأمة فهي تكتل بشري متجانس له تجل تاريخي متصل وفاعل، فهو مفهوم أبعد من فكرة “الجماعة المتخيلة” التي طرحها أندرسون، وهو في التاريخ الإسلامي سابق على مفهوم الدولة الحديث، وقد بدأ تأسيس الأمة مع هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى يثرب القرية التي تحولت إلى “المدينة”.
فالجماعة الإسلامية تأسست على النص/القرآن وتبلور النص نفسه فيها، ولذلك سنجد أن كل الانقسامات التي ستحصل فيما بعد ستدور حول النص تأويلا أو استلهاما أو تمثلا أو استعمالا. فقبل تأسيس الأمة كان الناس أخلاطا: مسلمين، ويهود، ومشركين، ومنافقين على حد وصف المؤرخ أبي بكر الصولي (335هـ).
فالأمة -بالتأسيس الإسلامي والقرآني- هي تجاوز لحالة الشعوب والقبائل، ولذلك كانت مفردات (الشيعة والفريق والفوج والطائفة) التي ترد في القرآن تعبر عن الاجتماع الناجم عن انقسام عن جسم أكبر، أو فساد لسبب ديني، كما يوضح رضوان السيد الذي انشغل كثيرا في الثمانينيات بـ”الجماعة” ومفاهيمها.
وحين نتحدث عن “أهل السنة والجماعة” بوصفهم أمة لا طائفة، فإننا نحيل إلى جملة من المعاني والحقائق التاريخية التي تتصل بتاريخ تشكل الاجتماع الإسلامي نفسه.
فالأمة التي شكلها النبي صلى الله عليه وسلم ثم نمت وتضخمت مع خليفتيه أبي بكر وعمر تأسست على جملة عناصر: الفكرة الجامعة وتمصير الأمصار التي مثلت عملية تحضر وخروج من البداوة العربية، وهو المعنى الذي رسخته الشعائر الدينية ذات الصيغة الجمعية كصلاة الجمعة التي كانت وراء توسيع الأمصار، والتنظيم الاجتماعي الداخلي الذي رافق ذلك كله مع بناء التنظيمات الداخلية المرافقة لتوسع الاجتماع الإسلامي وتطوراته، بالإضافة إلى السلطة التي نشأت في المدينة النبوية ثم اتسعت، ومن ثم يغدو ذا أهمية اشتراط اتباع “سنة الشيخين” (أبي بكر وعمر) على من سيتولى منصب الخليفة الثالث.
فالسمة المميزة للأمة هي صفة الجامعية، فـ”الجماعة” شكلت سمة مميزة للتيار العام (أهل السنة والجماعة) منذ نشأته، خاصة مع وقوع “الفتنة” والانقسامات المبكرة، بدءا من مقتل عثمان ثم علي رضي الله عنهما، والصراعات السياسية اللاحقة التي نشأت عنها “الفِرق” الكلامية المختلفة، التي لم يستعمل لها تعبير “طوائف”؛ لأن التركيز كان على “الجماعة” في مقابل التفرق عنها إلى فِرق.
فالتفرق والانشقاق عن التيار العام هو السمة المركزية المصاحِبة للفِرق وما سمي -حديثا- الطوائف، وليس مجرد المعارضة السياسية؛ لأنه قد وجدت معارضات سياسية مختلفة تاريخيا، منها ما سمي ثورة القراء التي كانت حركة معارضة مفتوحة لا تستقل برموز دينية مرجعية ولا تنفرد بتشكيل تنظيمي.
على خلاف معارضة الشيعة والخوارج التي بدأت معارضة سياسية ثم تحولت إلى بناء تصور آخر للاعتقاد والأمة، ولذلك لم تستطع الحركتان أن تتحولا إلى أكثرية أو تصبحا “الإسلام” نفسه أو “جماعة المسلمين” بالرغم من محاولة بعض الإباضية الأوائل تسمية أنفسهم بـ”جماعة المسلمين” ومحاولات بعض الشيعة الأوائل تسمية أنفسهم “حزب الله”.
فالتشيع الذي تحول إلى “فِرقة” -طائفة بالمفهوم الحديث- قام على مفهومين مركزيين: البراءة (وتعني البراءة من الجماعة الإسلامية المتشكلة منذ وفاة النبي)، والولاية (وتعني الانضمام إلى جماعة جديدة تبلورت ملامحها المستقلة وتطورت بحيث شكلت لها رموزا وشعائر تميزها وتسوغ وجودها وبقاءها).
وشرط الاستقلال والتميز جوهري في “الطائفة” التي تدفعها قِلتها في مواجهة الأكثرية أو السلطة السائدة إلى العزلة الاجتماعية والانفصال عن الجماعة المترامية الموزعة في الأمصار، ومن هنا تلح المصادر الشيعية على تحديد الصحيح من القول والفعل في حالة الالتباس باتباع ما يخالف “العامة” أو العمل بخلاف قول “فقيه العامة” أي الفقيه السني حصرا؛ لأن الحق يكون بخلافه، وهو هنا حق وظيفي مهمته صون هوية الطائفة والحيلولة دون تماهيها مع الجماعة وذوبانها في التيار العام.
وتستمر هذه النزعة الانشقاقية عن الجماعة/الأمة في بعض التشكيلات المعاصرة السنية والشيعية، فنجدها في نقاشات بعض متطرفي الإخوان المسلمين حول تحديد هويتهم وهل هم جماعة من المسلمين أو جماعة المسلمين، كما نجدها لدى الحركات التكفيرية، ولدى الحركة الوهابية التي أخرجت جمهورا كبيرا من المسلمين من “أهل السنة والجماعة”، ونجدها في أسماء التشكيلات الشيعية المختلفة كـ”حزب الله” و”أنصار الله”، في حين أن “حزب الله” يرد في القرآن تعبيرا عن مرحلة جديدة في الاجتماع البشري هي بديل عن التشكيلات الضيقة والقاصرة كالحزبية والقبلية.
وفي سبيل صون “الجماعة”، قام علماء الأمة -تاريخيا- بجملة من الموازنات، فقدموا أولوية “الطاعة” السياسية على الخروج على السلطة وإن كانت ظالمة؛ حفاظا على وحدة الجماعة ووحدة دار الإسلام، ولكنهم لم ينبذوا المعارضة السياسية مطلقا ما دامت لا تؤثر في تلك الوحدة.
ولذا حفظوا حقوق البغاة (المعارضين السياسيين) وصانوا حياتهم ما دام لهم تأويلٌ ومظلمة إذا تركوا السلاح أو القتال، وأوجبوا قتال الطائفتين المتنازعتين من أجل العودة إلى الجماعة، وذهبوا إلى القول بعدم صحة البيعة لخليفتين معا؛ لأنهم رأوا أن توزع السلطة يؤدي إلى تشرذم الأمة، وكتب كثيرٌ منهم في التحذير من الفتنة بمعنى الانقسام الداخلي والحرب الأهلية.
بل إن مفهوم الأمة هو المفهوم المركزي الذي تأسست عليه فكرة الإمامة والنظام السياسي وفكرة “دار الإسلام”، فوظيفة الإمام “النظر في مصالح الملة وتدبير الأمة” كما يقول الماوردي، واستمرت الحال إلى إسقاط الخلافة العثمانية واقتسام تركة “الرجل المريض” بين الدول الاستعمارية ثم ظهور “الشرق الأوسط”.
و”الشرق الأوسط” تسميةٌ تتجنب أي إحالة إلى طابع حضاري أو ثقافي أو تاريخي للمنطقة وهويتها، ولم تفلح كل محاولات استعادة وحدة الأمة سواء عبر إحياء الخلافة أو أفكار مثل “الجامعة الإسلامية” وغيرها، بل قامت أخلاط وأوهام مع صعود النزوع القومي الأوروبي، وقيام دول ما بعد الاستعمار، وقيام مشاريع فكرية سعت إلى قلب الفرق الهامشية إلى متن، وتمجيد الهامش باعتباره الأصل الذي تم إقصاؤه أو نفيه، ومن ثم إعادة قراءة التاريخ الثقافي للأمة بناء على مثل هذه الأوهام الانشقاقية.
المصدر : الجزيرة نت