تتحوّل “سورية المفيدة” يوماً بعد يوم إلى “محمية روسية” رسمياً، أو هكذا يُفترض. لم يعد الكرملين يجد حرجاً في مناقشة أمر تقديم مساعداته العسكرية و”الإنسانية” إلى النظام السوري، لتكريس وجودية هذا النظام، على منطقة محددة من سورية المعروفة اليوم. حتى أن الحديث العلني عن منع الطائرات الروسية المتجهة إلى سورية من العبور في أجواء دول محددة، أو السماح لها بذلك، والإقرار الرسمي الروسي بهذا التدخّل، لا يُمكن أن يحصل، لولا ثقة موسكو، أن أي ردّ فعلٍ دولي على هذه السلوكيات لن يتخطى “الاستعراض” الكلامي.
في الواقع، لم تفعل روسيا أقلّ من ذلك. ووجود الخبراء والمستشارين الروس في سورية ليس جديداً حتى، والمعركة الخاطفة التي وقعت على مشارف داريا في خريف عام 2012، وترافقت مع انقطاع الكهرباء والإنترنت، أكبر مثال على دعم الكرملين الرئيس السوري بشار الأسد. في ذلك الوقت، كانت المعارضة تُجهّز لهجومٍ كبير على دمشق، كشفته الاستخبارات الروسية التي وضعت خطة عسكرية لما سمته “استباق الهجوم”، وبدلاً من أن ينطلق المعارضون، صباح يوم أحدٍ، شنّت قوات النظام هجوماً مباغتاً، ليل الخميس ـ الجمعة، السابق للأحد، لينتهي أمر حسم معركة دمشق، حتى إشعار آخر.
حضر الروس، أيضاً، في ملف المساعدات العسكرية، وتأمين المبالغ اللازمة لاستمرارية ضخّ الأموال في ما تبقّى من منظومة الدولة. ولم يفعلوا ذلك كله لأجل الأسد أو النظام، بقدر ما فعلوه من أجل ضمان استمرارية القاعدة البحرية الوحيدة لهم في الشرق الأوسط، والموجودة في طرطوس.
لم تكترث موسكو لكل من سعى إلى “طمأنتها” في المحافظة على مصالحها بعد سقوط الأسد. بالنسبة إليها، ما زال درس الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، ماثلاً في الأذهان، ومشهد السباق بين الغارات الأميركية الأولى على بغداد في 20 مارس/آذار 2003 والمساعي الأخيرة للمبعوث الروسي، يفغيني بريماكوف، لإنقاذ ما تبقّى، يبقى الأكثر ألماً في ذاكرة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. مع صدّام، كان الاتحاد السوفييتي ركناً أساسياً في بلاد الرافدين، ومع العراق الجديد، باتت روسيا خارج الصورة. بالتالي، لا تريد موسكو خسارة موقعها في المياه الدافئة لجهة سورية، فاستثمرت في الأسد وقواته، ولا تزال، للبقاء هناك.
على أن روسيا اليوم، أذكى من روسيا الأمس، من دون أن يعني ذلك حتمية انتصارها أو هزيمتها، بقدر ما يعني قدرتها على قراءة الأوضاع من زاوية أكثر دقة. تتصرّف روسيا، حالياً، بطريقة أكثر “أميركية”. تعقد الصفقات مع السعودية ومصر، وتُدشن عهداً جديداً من الدبلوماسية مع مختلف دول الخليج، مع مواصلة دعمها خصم الخليجيين الأول: إيران، عبر تأكيد تسليم طهران منظومة الصواريخ “أس 300”. أما في الملف السوري، لم يأتِ استقبالها “الائتلاف” الوطني المعارض عن عبث، بل تصرّفت معه على قاعدة “نحن موجودون ميدانياً، وعليكم التعامل معنا، لا مع الأميركيين”، فلدى واشنطن أمور أكثر “أهمية” للتفكير فيها، من بحر العرب إلى بحر الصين الجنوبي في المحيط الهندي. أما الملف الشرق أوسطي بالنسبة إلى الأميركيين، فيقتصر على أربعة عناوين: الاتفاق النووي مع إيران ونتائجه الاقتصادية، وعقد مزيد من الصفقات العسكرية مع دول الخليج، والحفاظ على أولوية الأمن الإسرائيلي المُطلقة، ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
ومن المفترض أن يتعاظم الدور الروسي مستقبلاً، في ظلّ عاملين: انخفاض أسعار الطاقة، وحاجة روسيا إلى إعادة توجيه استثماراتها وزيادة الاعتماد على الموارد غير الطاقوية، وتوسيع دائرة “صداقاتها” الشرق أوسطية، لتفرض الحاجة إليها أوروبياً، لا من بوابة أوكرانيا فحسب، بل من بوابة الشرق الأوسط. أما الأميركيون، فيبدو أنهم يؤيدون هذا التوجّه، طالما لم يمسّ مصالحهم وحلفاءهم، ولا يعرقل عملياتهم العسكرية من شمال العراق إلى شبه جزيرة سيناء المصرية.
المصدر : العربي الجديد