هل يمكن اعتبار دعوة الكرملين للحوار بين موسكو وواشنطن بشأن حل الأزمة السورية، والتي جاءت على لسان المتحدث باسم الرئاسة الروسية، ضغط على أمريكا للقبول بالوضع المستجد، أم دعوة لتقاسم الخريطة السورية أم هو مجرّد تصريح دبلوماسي تقليدي ردا على سؤال صحافي؟
تقدم القيادة الروسية، فيما يخص الشأن السوري، نسختين تبدوان متناقضتين من كل تصريح، فهي تلمّح أحياناً، وبحسب من تخاطبه، إلى عدم تمسكها بشخص الرئيس السوري، ثم تعود، قبل أن يبرد التصريح الأول، إلى التأكيد الجازم على ضرورته، بل وتطالب الغرب بالتحالف معه من أجل «ضرب الإرهاب».
من قبيل هذا الكلام ما تداولته صحيفة «الغارديان» البريطانية في عددها أمس من حديث للرئيس الفنلندي السابق للسلام مارتي أهيتساري قال فيه إن الدول الغربية فشلت في انتهاز الفرصة والموافقة على خطة عرضها عليه عام 2012 السفير الروسي للأمم المتحدة فيتالي تشيركين تتضمن تنحي الأسد عن السلطة في مرحلة معينة وبعد بدء المحادثات بين المعارضة والنظام، ويزعم أهيتساري أن الدول الغربية تجاهلت الخطة لأنها كانت واثقة من سقوط نظام الأسد، غير أن قراءة متفحصة للعرض الروسي تجعلنا نتأكد أن أهيتساري، وهو بالمناسبة حائز على جائزة نوبل للسلام، على جهل فاضح بألاعيب روسيا بقدر جهله المضحك بأحوال سوريا، لأن المبادرة الروسية التي ظنّها عرضاً لتنحّي الأسد لا تختلف عن عروض روسيا اليوم والتي تهدف فعلاً وقولاً للحفاظ على الأسد وإنهاء المعارضة لنظام حكمه.
ولكن إذا كان الموقف الروسي منذ بداية الأزمة السورية واضحاً، فإنه صار أكثر جلاء ووضوحاً بكثير مع أخبار وصول 15 طائرة شحن عملاقة عبر إيران والعراق، حتى الآن، محملة بالمعدات والجنود، أنزلت دبابات تي 90 ومدافع هاوتزر وعربات مصفحة ومئات من جنود البحرية الروسية الذين أعدّوا مساكن جاهزة تستوعب 1500 جندي.
مقابل هذا التدخل العسكري الصريح تتعامل المواقف الأمريكية مع الحدث بطريقة الوصف كما لو كان البيت الأبيض ووزارتا دفاعه وخارجيته وسائل إعلام محايدة تنقل أخبار التدخل العسكري الروسي من زاوية الإخبار والإبلاغ، وهو ما يمكن اعتباره، بمقاييس التعامل الدولي، شكلاً من أشكال الرضوخ للنزعة الهجومية الروسية المستفحلة، يعكس التراجع العسكري والسياسي الأمريكي المتزايد في المنطقة والفشل السياسي الذريع في سياستيها السورية والعراقية، التي تركّز فقط على ضرب تنظيم «الدولة الإسلامية»، بغض النظر عن المشاركين في حملتها، أو بالنتائج النهائية الممكنة من هذه الحملة.
تحاول واشنطن فرض هذه الأجندة على حلفائها الإقليميين بالقوة، في تجاهل خطير للأسباب التي أدّت لصعود التنظيم الإرهابي، وعلى رأسها وحشية النظام السوري المستمرة منذ سنوات ضد شعبه، وأعوام الاضطهاد للسنّة العراقيين الذي بدأ مع احتلال العراق واستفحل مع تسليمه غنيمة رخيصة لإيران والأحزاب الشيعية الموالية لها.
بتدخلها العسكري المتسارع تنقل روسيا «اللعبة الكبرى» إلى طور جديد يتلاعب بالأجندة الأمريكية الركيكة ويفرض على الغرب «حواراً» مع الكرملين من موقع القوة، كما أنه يردّ بشراسة على موقف السعودية (وكذلك تركيا وقطر) الذي عبّر عنه وزير خارجيتها عادل الجبير في موسكو نفسها بقوله إن الأسد سيرحل سياسياً أو عسكرياً.
ولعلّ الخطوات العسكرية اللاحقة على الأرض السورية تفسّر هذا الصراع السياسي فخروج «جيش الإسلام»، وهو فصيل محسوب على الرياض وحلفائها العرب، من الغوطة الشرقية، بعد سكون لسنوات، وهجومه الكاسح على أكثر من 25 حاجزا للنظام السوري في قلب دمشق، قد تكون النقلة المقابلة للردّ بالطريقة التي تفهمها موسكو والنظام السوري وحلفاؤه.
واشنطن من ناحيتها لن تستطيع الوقوف على الحياد والالتزام بسياسة ضرب «الدولة الإسلامية» في سوريا وحدها (كما ظلت تفعل بقصفها تنظيم «القاعدة» في اليمن وتجاهل كل معطيات الصراع الأخرى الخطيرة هناك بما فيها استيلاء الحوثيين على السلطة) فالخطوة الروسية خلقت دينامية تطوّر وتحد جديدة للأمريكيين والغرب برفع قيمة أسهمها في سوريا والبحر المتوسط (مع وجود اليونان كحصان طروادة افتراضيّ)، تدعمه رغبات ساذجة متزايدة في بعض دول أوروبا لتسليم مقاولة الشأن السوري للكرملين، وربما رغبات، أخرى، في توريط روسيا في المستنقع السوري.
النقلة الروسية ستستدعي، بالضرورة، نقلات مضادّة، إقليمية وعالمية، وهو ما عبر عنه أمس تصريح رئيس الوزراء الفرنسي عن دعمها تدخلا بريا في سوريا ينفذه ائتلاف من دول الإقليم.
ولا عزاء للسوريين، الباقين منهم، أو الهاربين بأرواحهم إلى أي مكان يستقبلهم.
المصدر : القدس العربي