مقالات

كمال عبد اللطيف – هجرة أم تهجير؟

تحوَّلت ظاهرة نزوح مئات من الهاربين من جحيم أوطانهم في المشرق العربي نحو أوروبا، إلى عنوان أَوَّل في الأخبار التي ترسلها قنوات التلفزة في العالم. وأصبحت المآسي الناجمة عن عمليات التَّهجير المتصاعدة مظهراً يعكس خطورة ما تعرفه بعض البلدان العربية من صراعات داخلية. 

ترتبط الظاهرة بسياق التحوُّلات التي عرفتها مجتمعاتٌ تروم التخلص من أنظمتها السياسية الفاسدة، ونظراً لصعوبة المعارك التي انطلقت في هذه المجتمعات، وبحكم الشروط والملابسات السياسية والإقليمية المحيطة بها، تطوَّر الصراع السياسي واختلط مع ظواهر ومعطيات تَمَّ توظيفها لتحويل مجتمعات المشرق العربي إلى بؤر للاقتتال والعنف. وما نشاهده اليوم من صُور وأخبار عن تهجير آلاف المواطنين والمواطنات من القرى والمدن السورية يضعنا أمام حَدَثٍ بمواصفات خاصة، إنه يختلف عن موضوع الهجرة والمهاجرين في الصور التي استقر عليها الأمر منذ عقود، صُور الشباب الراغبين في عبور البحر الأبيض المتوسط نحو بلدانٍ، تحمل مخيلتهم عنها تصوُّراتٍ تغري بركوب مغامرة العبور المحفوفة بالمخاطر.
 
ترحل قوافل الفارّين فتعبر البحار، كما تعبر مختلف الدروب والحدود التي تقرِّبها من أرض تهبها ما لم يعد في وسعها امتلاكه في الأرض التي نشأت فيها. وتتحوَّل الظاهرة إلى قضية جاذبة لوسطاء وتجار وبضاعة، فلا تعود مقتصرةً على فارِّين من مجتمع يحترق، بل تضاف إليهم فئات أخرى من تجار السلاح والمخبرين ومتصيِّدِي المآتم والولائم، من دون أن نغفل الإشارة إلى الذين يتاجرون بالجنة والنار، فنصبح أمام أسئلة أخرى، ويترتَّب عن الحدث نتائج وتداعيات تفوق الصورة التي حملها في بدايات تبلوُره.
 
لنبدأ بتوضيح التسميات التي ألصقت منذ البداية بالظاهرة، فالتسميات، كما نعرف، تصنع موضوعاتها، لأنها ترسم الحدود والعلاقات الدالَّة، ثم يحصل رسوخها بالتداول. إنها ليست اعتباطية، على الرغم من أنها قد تكون في الأصل كذلك، ذلك أن الغرض من تعميم مفردةٍ بَدَلَ أخرى، في الإشارة إلى حدث أو ظاهرة، يتوخَّى قصداً بعينه، ويتجاهل مواقف أخرى ذاتصلة بموضوع التسمية. وضمن هذا السياق، نشير إلى أننا نواجه مجموعة من المهجَّرِين الهاربين من مجتمعاتٍ تعرف حروباً داخلية منذ خمس سنوات، حيث لم تستطع الفئات المتصارعة التوافق على حلولٍ بالتراضي، ولم يستطع المجتمع الدولي ومؤسساته النجاح في المساعي التي تروم وقف مسلسل التدمير والتخريب وتهجير الجماعات من المدن والقرى.
 
ولَّدت الممانعة السورية المدعومة بحسابات أطرافٍ وجهاتٍ لا حصر لها، حالةً من الفوضى استعملت فيها أبشع وسائل الحرب قذارة، حيث تغوَّلت الطائفية وصُنِعَت الداعشية وأخواتها، فدخلنا حروب الوكالة، ليصبح الوضع مُرعباً، فاختلطت الخيوط وسَلَّمَ الداخل للخارج مفاتيح المجتمع، فلم يعد أمام الأفراد سوى مخرج واحد، مغادرة سورية بحثاً عن مكان آمن.
 
لا أستسيغ حديث بعضهم في الإعلام العربي والغربي عن صحوة الضمير الغربي أمام الجرائم التي تُرْتَكَب بفعل التَّهجير، فقد عَوَّدتنا أوروبا والولايات المتحدة أن مواقفهما من كل ما يجري في العالم يحكمها منطق التاريخ والمصلحة. وضمن مقتضيات هذا المنطق، تطرح مسألة إيجاد حلول مناسبة للمشكلة، وهنا، ينبغي أن نتذكَّر ورطة الغرب في كل ما جرى ويجري، بحكم معرفته بسياقات الأحداث في المشرق العربي في أبعادها المركَّبَة، يتعلق الأمر بواقع النظام السياسي السوري، وانخراط قوى إقليمية في إسناده. إنهم يعرفون الأدوار التي تمارسها روسيا وإيران وحزب الله، وقوى سياسية أخرى عربية وأوروبية، كما يعرفون مواقف الولايات المتحدة الأميركية في سورية، وقبل ذلك في العراق وفلسطين.
 
وإذا كانت وسائل الإعلام الغربية تمتلك قدرة هائلة على تقديم صورة النازحين معزولة عن سياقاتٍ تعرف الدول الأوروبية تفاصيلها، حيث تحرص قنواتها التلفزية على تعميم صور القطارات وقوارب الموت وأخبار الشاحنات التي تحترق، فيموت ركَّابها اختناقاً، لتبدأ في سرد الأدوار الإنسانية التي تقوم بها. وهنا، نوضح أنه لم يعد ممكناً الحديث عن حلول إنسانية، فنحن نتذكَّر أن الدول الأوروبية سمحت، في بداية تبلور الظاهرة باستقبال المسيحيين العرب، بتعلَّة سهولة إدماجهم، ثم بدأ مسؤولون أوروبيون يتحدثون عن استقبال المهجَّرين، قصد تعويض المتقاعدين من العمال والتقنيين في مجال الصناعات. ثم بدأ خبراء يتحدثون عن ضرورة التفكير في ابتكار آليات جديدة لمواجهة ما يجري، من قَبِيل إنشاء رخص إقامة جديدة تُمْنَح للوافدين، وتكون أوروبية، تُسْعِف القارة العجوز بتشبيب مجتمعاتها. وهكذا تتواصل رحلة العربي المقهور مجدَّداً إلى مجتمعٍ، يلجه هرباً من نظام يعلن أنه الخيار الأوحد وبديله الدمار.

المصدر : العربي الجديد 

زر الذهاب إلى الأعلى