لم تتغيّر السياسة الروسية، جوهرياً، تجاه الحالة السورية منذ بدء الانتفاضة في مارس/آذار 2011، ومازالت هذه السياسة تتبنى موقف السلطة السورية بالكامل، ومن دون تحفظ، وتقول معها إنّ الانتفاضة السورية ليست ثورة، وإنما هي من فعل “مغامرين” و”إرهابيين” و”عملاء لدول الخارج”.
وفي سياق زيادة انخراطها، تكشف روسيا ما تبقى من أقنعة عن وجهها، حين ترسل طائراتها العسكرية وبوارجها، حاملة أنواعاً جديدة من الأسلحة الفتاكة، وجنوداً وخبراء عسكريين، وتبدأ في إنشاء قاعدة جوية في مطار حميميم في اللاذقية، بل وتعلن إصرارها على بقاء رئيسٍ، تلطخت يداه بدماء مئات آلاف السوريين، وارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، في تحدٍ سافر للقانون الدولي الإنساني.
ويأتي الانخراط الروسي العسكري المباشر نتيجة عوامل متعددة الأبعاد، وستكون له، بالطبع، تداعيات بعيدة المدى على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية. فما هي محددات السياسة الروسية تجاه سورية؟ وما أهدافها وتداعياتها ونتائجها المتوقعة؟
لطالما شكل البحر المتوسط، تاريخياً، مجالاً لممارسة السلوك التنافسي مع القوى الأخرى، وهو ما يفسر اعتبار الوجود الروسي في المتوسط ضرورة تعاطت معها القيادات الروسية منذ القدم. وكان الحرص الروسي على الحضور الدائم في المتوسط من العوامل الرئيسية وراء إلحاق شبه جزيرة القرم بالاتحاد الروسي، لضمان بقاء ميناء سيواستبول، مقر قيادة أسطول البحر الأسود، تحت الهيمنة الروسية. فمن خلال هذا الميناء، تستطيع روسيا إدامة وجود قواتها في البحر الأبيض المتوسط.
كما يبدو أنّ أسباب زيادة الانخراط الروسي تتلخص في محاولة روسيا العودة إلى المشهد السياسي الدولي، عبر بوابة الأزمة السورية. حيث يأتي التحرك الروسي انطلاقاً من حاجة موسكو الماسة لاستعادة دور مركزي لها في الساحة السورية، بعدما نجحت واشنطن في إقصائها كلياً عن المعركة العالمية التي تقودها ضد “داعش” في سورية والعراق. كما تحتاج موسكو إلى تخفيف أعباء معركة أوكرانيا وتبعات العزلة الدولية التي تزداد تضييقاً عليها.
فبعد أن أطاحت الحرب في جورجيا عام 2008 وفي القرم وأوكرانيا عام 2014، محاولات الغرب لجلب حلف الناتو إلى أعتاب روسيا، تأتي خطة إعادة بناء وجود عسكري روسي في سورية، لتعلن أنها ليست مجرد قوة إقليمية في أوروبا الشرقية فحسب، لكنها أيضاً لاعب دولي مؤثر، وأنها على استعداد لاستعراض قوتها العسكرية في مناطق أخرى من العالم، بعيدة عن الأراضي الروسية. لذلك، جاء الوجود الميداني في سورية من أجل ممارسة النفوذ، عبر تحويل ميناء طرطوس إلى قاعدة عسكرية روسية، ومطار اللاذقية المدني إلى مطار عسكري في خدمة روسيا، خصوصاً بعدما استبعدت الولايات المتحدة روسيا عن العراق في حربها على الإرهاب هناك، وبعدما خدعت دول “الناتو” روسيا في ليبيا.
كما تشكل الجغرافيا السورية واحدة من الضرورات اللوجستية للمشروع الروسي في مجالالطاقة، وذلك لما تملكه من إمكانيات ربط بين مواقع الإنتاج ومناطق الاستهلاك، ومعبراً للغاز القادم من آسيا الوسطى، الواقعة تحت قوس السيطرة الروسية، ولربط استثمارات الغاز على المتوسط بالغاز القادم من إيران، ومعبراً إجبارياً لخطوط النقل المتجهة إلى أوروبا، ما يجعل من سورية درة الاستراتيجية الروسية في المنطقة، خصوصاً مع وجود بنية تحتية روسية في سورية، تتمثل في ميناء طرطوس، وفي استثمارات عديدة في مجال النفط والغاز.
كما تشكل الجغرافيا السورية واحدة من الضرورات اللوجستية للمشروع الروسي في مجالالطاقة، وذلك لما تملكه من إمكانيات ربط بين مواقع الإنتاج ومناطق الاستهلاك، ومعبراً للغاز القادم من آسيا الوسطى، الواقعة تحت قوس السيطرة الروسية، ولربط استثمارات الغاز على المتوسط بالغاز القادم من إيران، ومعبراً إجبارياً لخطوط النقل المتجهة إلى أوروبا، ما يجعل من سورية درة الاستراتيجية الروسية في المنطقة، خصوصاً مع وجود بنية تحتية روسية في سورية، تتمثل في ميناء طرطوس، وفي استثمارات عديدة في مجال النفط والغاز.
وقد كان لاحتمالات التقارب الأميركي – الإيراني أثر على تحريك الموقف الروسي، إذ تبدو أميركا بصدد إعادة صياغة علاقاتها مع إيران التي يتداخل فيها الاقتصاد والسياسة بدرجة كبيرة. إذ تدرك موسكو أنّ قدرتها على التأثير في النظام السوري ومصيره عامل متغيّر، يخضع لشروط علاقة طهران وواشنطن، إذ في ظل تحوّل الصراع إلى النمط الطائفي، تصبح لإيران اليد العليا في التأثير على النظام السوري. وفيما بدا الدور الروسي مقتصراً على الدعم المحدود والقوة التصويتية في مجلس الأمن، أصبحت إيران قوة محركة وأساسية على الأرض، وتحولت، بفعل هذا المعطى، إلى مقرر أساسي، طالما هي تمتلك أكثر من ثلاثة أرباع القوة العاملة على الأرض ضد الثورة السورية، من كتائب الحرس الثوري ومليشيات حزب الله وأبو الفضل العباس.
وهناك مسألة فائقة الأهمية لروسيا، تتمثل في قلقها الجدي من التطرف الإسلامي، واقتناعها بأنّ انتصاره في سورية سيأتي به إلى روسيا.
ومع معرفتها بالوضع الصعب الذي بات عليه رأس النظام السوري، الذي من بين مؤشراته التخبط في منطقة الزبداني على الحدود مع لبنان، جنباً إلى جنب، مع حزب الله من دون قدرة على حسم الوضع العسكري، فإنّ التدخل الروسي يبدو معبِّراً عن تهديد حقيقي، شعرت به روسيا، لكي تتقدم من أجل حماية مصالحها مباشرة، أو تخوُّفاً من أن تطاولها التطورات الميدانية في سورية.
وربما يعتبر الرئيس بوتين أنّ سورية تقترب من سيناريو التقسيم، وهو يريد أن يحصِّن نفوذه في الساحل السوري، لحماية قاعدته البحرية في طرطوس من احتمال أن تصبح في مرمى صواريخ المعارضة، المدعومة تركياً وخليجياً، إذا حققت تقدماً جديداً في الشمال الغربي. وهكذا، يؤسس عملياً لمشروع إقليم مقابل للمنطقة التي تسعى تركيا إلى إقامتها شمال حلب.
وهكذا، يبدو أنّ زيادة الانخراط الروسي قد لا يكون معبِّراً عن وضع الأزمة السورية، على طريق الحل، بمقدار ما قد يكون معبِّراً عن انتقال الأزمة إلى مرحلة جديدة من مراحل تطورها، تتورط فيها روسيا في الحرب الداخلية السورية، خصوصاً في حال لم تقنع الولايات المتحدة والغرب لملاقاتها من أجل التحالف ضد “الإرهاب” في سورية. وإذا كان الأسد قد شعر بالوقوع تحت بعض الضغوط، أخيراً، فإنّ الانخراط الروسي سيعزز من عناده، ويضمن أنه لن يقدم أية تنازلات حقيقية على أية طاولة للمفاوضات في القريب المنظور، سواء في موسكو أو جنيف أو في أي مكان آخر.
وفي الواقع، لا يشكل الوجود العسكري الروسي في طرطوس أو مطار اللاذقية تهديداً للغرب، ويعرف بوتين جيداً أنّ روسيا ليست تهديداً جدياً في البحر المتوسط، لأنّ المرفأ الوحيد لها فيه يمكن منع الوصول إليه من المنفذين الوحيدين له، وهما الدردنيل والبوسفور التركيان ومضيق جبل طارق. ويعرف، أيضاً، أنّ وجوده البحري في المتوسط لا يستطيع أن يواجه بفاعلية الوجود الأميركي المماثل، كما وجود بحرية حلف الناتو.
إنّ الانغماس الروسي في المستنقع السوري من المرجح أن يؤدي إلى تقسيم طويل المدى لسورية، تكون فيه المنطقة الممتدة من دمشق إلى الساحل الغربي تحت سيطرة تحالف الأسد – خامنئي – بوتين، وأجزاء كبيرة من الشرق والجنوب والشمال تحت سيطرة المجموعات المتعددة للمعارضة. وقد تصبح منطقة الشرق الأوسط ساحة لصراعات أكبر وأكثر خطورة تهدد السلم والأمن الدوليين، وربما تقود، لاحقاً، إلى مواجهة روسية – غربية.
المصدر : العربي الجديد