تشبه سورية الآن ما كانت عليه إسبانيا في حربها الأهلية (1936-1939)، من حيث كونها تحولت، عبر نزاع داخلي العوامل، ساحةً للصراع الدولي- الإقليمي، وكانت إسبانيا إرهاصاً لما جرى في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) التي نشبت بعد ستة أشهر من انتهاء الصراع الإسباني الداخلي في آذار (مارس) 1939.
لم تتحول سورية إلى ساحة للصراع الدولي- الإقليمي إلا بعد فشل السوريين في الاتفاق على تسوية داخلية خلال الأشهر الستة التي أعقبت بدء الأزمة بدرعا في 18 آذار 2011 أو في تغلب أحد طرفي النزاع السوري على الآخر كما جرى في فترة حزيران (يونيو) 1979- شباط (فبراير) 1982، عندما تغلبت السلطة على المعارضة.
وبعد محاولة أقلمة النزاع السوري عبر مبادرة الجامعة العربية الأولى (أيلول/ تشرين الأول 2011) ومبادرة الجامعة الثانية (كانون الثاني 2012) بغطاء خليجي- تركي، كان طي صفحة الأقلمة والدخول في تدويل الصراع السوري، الذي لم يعد نزاعاً داخلياً محضاً منذ أقلمته، من خلال الفيتو الروسي- الصيني في مجلس الأمن (4 شباط 2012) حين حملت المبادرة العربية الثانية للتصويت هناك، على رغم أن معارضين سوريين من «هيئة التنسيق» نصحوا الأمين العام للجامعة العربية آنذاك بأن الطريق من القاهرة إلى نيويورك يمر بموسكو، وهو ما رد عليه بأذن من عجين. كان التدويل أولاً من خلال مبادرة كوفي أنان ببنودها الستة في آذار 2012 التي تبناها مجلس الأمن الدولي ببيان رئاسي ثم وضعت خريطة طريق للتسوية السورية، (كما كان وما زال القرار 242 في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967 خريطة طريق للتسوية العربية الإسرائيلية منذ ما يقارب نصف قرن)، تمثلت في (بيان جنيف) الصادر في 30 حزيران 2012 الذي كان أساساً منتجاً أميركياً- روسياً. وفي تسوية (الكيماوي السوري) في 14 أيلول (سبتمبر) 2013 تجسد هذا التدويل الأميركي- الروسي، وعندما تكرس (بيان جنيف) في نص القرار 2118 بمجلس الأمن كان هذا نتيجة ما جرى بين كيري ولافروف قبل ثلاثة عشر يوماً حول الكيماوي.
ولكن ما يلفت النظر أن الدعوة إلى (مؤتمر جنيف2) التي حصلت في 25 تشرين الثاني 2013 جرت في اليوم التالي للاتفاق التمهيدي بين «خمسة زائد واحد» وإيران حول برنامج طهران النووي بجنيف. فشل «جنيف2» السوري نتيجة نشوب الأزمة الأوكرانية في 21 شباط 2014 التي كانت صراعاً أميركياً- روسياً على الأرض الأوكرانية وبالقرب من «حديقة خلفية» لقصر الكرملين.
منذ ما جرى في كييف21 شباط 2014 لم تتحرك عجلات تسوية الأزمة السورية فعلياً نحو مؤتمر «جنيف3» السوري إلا عبر ما جرى في فيينا في 14 تموز (يوليو) 2015 بين إيران ومجموعة خمسة زائد واحد من الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني، ولو أن الملامح الأولى لتزحزح العجلات قد تمت عقب اتفاق الإطار التمهيدي حول «النووي الإيراني» الذي جرى في لوزان في 2 نيسان (أبريل) 2015، وهو ما تجسد في شهر أيار(مايو) في مشاورات السيد دي ميستورا الاستكشافية مع الأطراف السورية في سويسرا. أوحت (فيينا 14 تموز 2015) و (لوزان 2 نيسان 2015) و (جنيف 24 تشرين الثاني 2013)، وتحريكاته عجلات «جنيف2» و «جنيف3»، بأن إيران لاعب أساسي في الصراع السوري تعترف بدوره واشنطن وموسكو ولا تستطيعان القفز فوق دور طهران وتجاهله. كان تقارب الرياض من موسكو منذ حزيران 2015 من أجل زعزعة هذه الثلاثية الأميركية- الروسية- الإيرانية وجعلها رباعية في الحل السوري، كما أن الاتفاق الأميركي- التركي في 23 تموز 2015 بانضمام أنقرة للتحالف الدولي- الإقليمي ضد «داعش» كان من أجل تخميس طباخي التسوية السورية ومن أجل أن تكون يد الأتراك طليقة ضد الأكراد.
لم تستطع القاهرة حتى الآن تسديس طباخي التسوية السورية على رغم محاولاتها تعزيز أوراقها السورية في طريق مزدوجة تسلكها الآن على سكتي السلطة والمعارضة السوريتين. كان ملفتاً للنظر أن التقارب الأميركي– الإيراني الذي حصل عقب سقوط الموصل بيد «داعش» في 10 حزيران 2014 والذي أنهى خصاماً عراقياً بين واشنطن وطهران بدأ في آب (أغسطس) 2005 مع استئناف إيران برنامجها في تخصيب اليورانيوم، لم يتجسد سورياً بل فقط عراقياً بإنهاء عهد نوري المالكي بعد شهرين من سقوط الموصل، كما أن التقارب الروسي- الأميركي الذي تجسد في القرار 2170 في 15 آب 2014 ضد «داعش» و «النصرة» لم يساهم في تحريك عجلات التسوية السورية ما دام الخلاف استمر حول الأولويات السورية بين واشنطن وموسكو، (التسوية السياسية) أم (الحرب على الإرهاب)، وهو على ما يبدو قد تم التوافق عليه بين الأميركيين والروس عقب البيان الرئاسي لمجلس الأمن في 17 آب 2015 والذي جاءت خطة السيد دي ميستورا في (المشروع الإطاري للمجموعات الأربع) وليدة له، حيث طرحت في الأسبوع التالي وهي تتضمن الجملة التي تقول بـ «التسوية السياسية ومكافحة الإرهاب»، حيث من الواضح أن المهمة الثانية معطوفة على الأولى ومشروطة بها في التصور الدولي القائم الآن لحل الأزمة السورية.
يوحي ما سبق بأن عوامل التسوية السورية تأتي من محصلات ونتائج توازن دولي- إقليمي، وهو على ما يبدو يرعى –بل رعى- التوازنات المحلية للنزاع السوري ويمنع انحرافها بعيداً من مبدأ (لا غالب ولا مغلوب) المتضمن في (المشروع الإطاري). ما تقوم به أنقرة من دعم ومساندة لعمليات فصائل مسلحة سورية في محافظة إدلب والغاب وفي شمال حلب منذ تقاربها مع الرياض في شباط 2015، ودخولها في التحالف ضد «داعش»، هو من أجل «جنيف3» السوري) واستعداداً له عبر تقوية أوراقها السورية.
أيضاً ما تفعله موسكو من زيادة مساعداتها التسليحية لدمشق، رغم الغبار الأميركي الإعلامي المضاد، هو من أجل تكريس الاتفاق الدولي الأميركي- الروسي، في مرحلة الانزياح الأميركي عن الشرق الأوسط باتجاه التركيز على الشرق الأقصى، القاضي بأن موسكو هي الرقم واحد من حيث النفوذ في دمشق الجديدة (يضاف لذلك الاتفاقات الاقتصادية الطويلة المدى)، وهو ما تجسد في «جنيف2» عندما كانت كلمة لافروف قبل كيري، والرياض الرقم واحد في صنعاء (من علامات ذلك سحب طهران مساعداتها التسليحية والاستخباراتية والمالية، ما قاد إلى تداعي قوة الحوثيين وعبدالله صالح عقب مرحلة ما بعد فيينا 14 تموز 2015)، وطهران الرقم واحد في بغداد، وبيروت للجميع. هذا التوازن ومحصلاته هو العامل الرقم واحد في الدفع نحو التسوية السورية، ويبدو أن الساحة السورية، كمكثف وساحة للصراع الدولي– الإقليمي، ستقود إلى تقاسم نفوذ دولي– إقليمي لمنطقة الشرق الأوسط، مثلما قادت الحرب العالمية الثانية عبر (مؤتمر يالطا) في شباط 1945 والتي كانت الحرب الإسبانية إرهاصاً لتلك الحرب.
«داعش» عامل محرك للتسوية السورية ولكن ليس رئيسياً، وكذلك تحول سورية إلى مفرخة للجهاديين العالميين تفوق أفغانستان الثمانينات، فيما مسألة زيادة الهجرة السورية ليست عاملاً ضاغطاً من أجل التسوية السورية بل علامة على اقترابها من خلال إسراع بعض الأوروبيين في استيعاب فائض بشري شاب وكفاءات علمية ومهنية قبل أن يؤدي عقد التسوية السورية لفقدان هذه الفرصة أو إضعافها. يمكن أن تكون تداعيات الحريق السوري على الجوار، وملموسية آثار ذلك في العراق وتركيا ولبنان واحتمالات أخرى في الجوار المباشر وغير المباشر، هي العامل الثاني الأقوى بعد اكتمال محصلات التوازن الدولي- الإقليمي في الدفع نحو التسوية السورية.
المصدر : الحياة