في قديم الزمان، انطلق الأمير قدموس من مدينته صور على الساحل الفينيقي ليفتش عن أخته أوروبا التي اختطفها كبير آلهة الإغريق زيوس لجمالها، بعدما تنكر على هيئة ثور وحملها إلى كريت حيث نصبها ملكة. وصل قدموس إلى اليونان بعد صعاب كثيرة ولم يجد أخته، فاستقر هناك وأسس مدينة طيبة وأصبح ملكها.
ثم علّم الإغريق الأبجدية الفينيقية التي منها اشتقت الأبجدية اليونانية لتنسال منها ملحمة الإغريق المعرفية. هكذا تمثل الإغريق في أساطيرهم أول عبور من أرض شرق المتوسط إلى بلادهم: قدموس جلب المعرفة وتأسيس المدن، وأخته أوروبا أعطت اسمها للقارة الواقعة وراء جبال مقدونيا شمال اليونان.
ملحمة أخرى تطبع العبور السوري الحالي إلى أوروبا. ملحمة بدأت بتفتت وطن بفعل تعنت نظام طائفي أرعن وتشدد تنظيم تكفيري أعمى، ويبدو أنها لن تنتهي إلا بإعادة تشكيل شعبٍ على أسس كان تخيلها صعباً حتى سنوات قليلة. فهذه الصفوف اللامتناهية من اللاجئين السوريين التي تعبر عبر تركيا إلى اليونان ومنها إلى أوروبا هرباً من براميل بشار وسيوف «داعش» لا تحمل معها أبجدية جديدة أو عمراناً جديداً.
إنها طليعة روافد جديدة للديموغرافيا الأوروبية ولسوق عملها ومشاريع مواطنين جدد في أوروبا حيث سيتذوق هؤلاء المحرومون طعم المواطنة وحقوقها ومسؤولياتها. وهم بالتأكيد سينجحون في اختبار الانتماء الجديد، كما نجح السوريون في تغريبتهم الأميركية، شمالاً وجنوباً، بدايات القرن العشرين. لكن نجاحهم يعني أن الديموغرافيا السورية ستتغير أيضاً، وبفعل فاعل، أو فاعِلَين.
الفاعل الأول، النظام الأسدي، الذي يريد أن يغير توزيع السكان في سورية وأن يخلي بعض المناطق الحساسة من أكثريتها السنية، كما يبدو مما حصل في ضواحي حمص وفي اتفاق الزبداني/الفوعة وكفريا أخيراً. والفاعل الثاني، «داعش»، الذي يريد أن يتخلص في مناطق سيطرته من الأقليات كما حصل للأيزيديين. فالشعب السوري برمته، بأكثريته وبأقلياته، مستهدف بإعادة التوزيع الجغرافية هذه، التي تخفي في تلافيفها إعادة كتابة التاريخ أيضاً.
فقد تشكلت سورية التي عرفناها حتى بداية الثورة الذبيحة على مهل. توضّعت أقوامها في مناطقها على مراحل، كلٌ منها يعكس غزواً، أو هجرة من مكان ما هرباً من اضطهاد، أو إعادة استقرار بفعل حركة القبائل. بدأ تشكلها كسورية عندما جاءها المقدونيون مع الاسكندر في القرن الثالث قبل الميلاد وأسسوا على معظم بلاد الشام مملكتهم التي خلطت الوافد الهلينستي بالمقيم السامي الذي تراكمت طبقاته على مدى ألفياتٍ ثلاث سابقة.
ثم توالى عليها الرومان والبيزنطيون الذين أخذوا منها وأعطوها الكثير: أعطوها الثقافة الكلاسيكية والانتماء للمتوسط، وأخذوا منها أفذاذ أبنائها وبناتها وعصارة تراثهم المتمادي في القدم، قبل أن تنتشر المسيحية، التي نشأت إلى الجنوب منها، في أرجائها، وتتطبع ببعض طباعها في كنائسها الشرقية. وجاءتها الهجرات العاربة والمستعربة، كالأنباط والتدمريين والغساسنة، على مدى قرون. وأسست في أرجائها ممالك صغيرة ثابرت على خلط الوافد السامي في هذه الحالة بالمقيم الهلينستي المتشرقن. فكانت سورية خليطاً من الأقوام التي تشاركت في تمثل كل الثقافات التي اختلطت على أرضها، رافدية وآرامية وفينيقية وهلينستية ورومانية ومسيحية وعربية، عندما جاءها الإسلام واقتبس ما كان لديها ثم طبعها بطابع الدين الجديد واللغة الجديدة-القديمة.
خمسة عشر قرناً من التاريخ الإسلامي وسورية في قلب الحدث. منها انطلقت أول إمبراطورية عالمية إسلامية. وفيها تصارعت الخلافتان العباسية والفاطمية على إرث دولة الرسول. إليها أتت الغزوات الصليبية محاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وفيها أوقِف المد المغولي الذي لم يكن ليرضى بأقل من غزو العالم. وفيها تحول العثمانيون من ملوك الأطراف إلى سلاطين الإسلام وحاملي راياته. كل ذلك وحركة الأفراد والجماعات منها وإليها لا تهدأ.
فمدنها الكبيرة مراكز علم وفقه وتصوف يفد إليها الأساتذة والطلاب من أصقاع دول الإسلام. وهي المرحلة الأخيرة قبل بلاد الحج بالنسبة للغالبية العظمى من المسلمين الذين يؤمونها حجاجاً وتجاراً. وهي الشرق الذي حلم به الغرب وأعاد إنتاجه صوراً وفانتازيا ومراكز تجارة تقاطعت عبر البحر الأبيض المتوسط. وهي فوق هذا وذاك موئل الهاربين من الاضطهاد في ربوع العالم الإسلامي الذين وجدوا في جبالها ملاذات آمنة حولوها على مر الزمان إلى مستقرات لهم.
وهي لذلك أصبحت موطن جماعات دينية وإثنية صغيرة لا توجد خارجها إلا في بعض دول الجوار: الموارنة والدروز والعلويين والأيزيديين والآشوريين أو السريان والإسماعيليين القدماء، بالإضافة إلى الامتدادات التركمانية والكردية المهمة ثم المسلمين ان والشركس الذين وصلوها مع انهيار الدولة العثمانية عندما كانت بعض أقليات سورية تتركها بسبب الانهيار العثماني ذاته.
وهذا فيما توضّعت غالبية مسلميها ومسيحييها العرب في مدنها وقراها السهلية أو الصحراوية وتعلمت الحداثة من مستعمريها الفرنسيين ليستخدم أبناؤها ما تعلموه مطالبةً بالاستقلال وإنشاءً لدولة-وطن سوري صغير يحمل عبء تاريخ طويل. هذه الفسيفساء السكانية التي تختزل في جغرافيتها تاريخاً متداخلاً ومتكاملاً، تتعرض للحتّ والبتر اليوم. منها تحاول القوى المتصارعة إنشاء جغرافيات جديدة، مطهرة عرقياً أو دينياً أو مدجنة سياسياً واقتصادياً وعقائدياً. جغرافيات تتخالف والتاريخ السوري، وتريد كتابة تاريخ جديد مبتسر ومزور، في حين يلفظ شقاء سورية ودمارها ملايين أبنائها وبناتها.
بعضهم لن يخطو بعيداً، بل سيبقى في دول الجوار التي آوته متأففة، وربما يعود، أو يبقى بحيث تنشأ تجمعات سكانية جديدة أو ينصهر في القرابات التي كانت دائماً موجودة عبر الحدود بعد تقسيمات سايكس بيكو. لكن الملايين التي هاجرت إلى أبعد من الجوار ستصبح نواة تشكيلات إنسانية جديدة، تحمل بعضاً من روح سورية بحلوها ومرها. سيندمج السوريون في مواطن هجرتهم ويُبقون رباطاً عاطفياً قوياً مع الوطن الذي لفظهم على رغم منه: يتناقشون ويتخالفون في السياسة، يستمعون إلى أغاني فيروز ويترنمون بها، يرون في كل ما يشاهدونه ذكرى من سوريتهم، ويأكلون أنواعاً مختلفة من التسقية والكبة والحراق اصبعو والحمص وغيرها. وربما حاول بعضهم تعريف موطنه الجديد وأولاده الجدد بسورية وحفظ ثقافتها وتراثها. لكنهم، وكما أكد معظم من قابلته وسائل الإعلام منهم، لن يعودوا.
المصدر : الحياة