مقالات

سعيد الحاج – هل قوض بوتين الدور التركي في سوريا؟

كان الموقف التركي من الثورة السورية منذ بدايتها متفردا، مناقضا للنظام وإيران وروسيا، لكن أيضا متمايزا عن الولايات المتحدة والغرب وجزءا من العالم العربي، وهو الموقف ذو السقف المرتفع المتمثل بالمطالبة برحيل الأسد، من دون امتلاك الإرادة و/ أو القدرة على إنفاذ هذه الرؤية أو حتى إقناع حلفائها بها.

ربما لاحت لتركيا فرصة ذهبية في فترة الانشقاقات الكبيرة والمتتالية للفرق العسكرية السورية عن جيش النظام في بدايات الثورة، لكنها لم تقتنصها، وفضلت البقاء ضمن الحدود المفروضة أمريكيا في دعم المعارضة (سيما حظر مضادات الطيران). لاحقا، ومع ظهور تنظيم الدولة – داعش تعمقت مشاكل الأتراك ولم يعودوا قادرين على الإنفاذ أو الإقناع، بعد أن توحدت جميع الأطراف خلف شعار مكافحة تنظيم الدولة أو “الإرهاب” بديلا لمواجهة النظام السوري، ويبدو أن التدخل الروسي الأخير في سوريا قد فاقم المشاكل التركية وضاعفها، على الأقل مرحليا.

لقد استغل الدب الروسي التردد الأمريكي (المقصود أو غير المقصود) والانقسام العربي تحت ضربات الثورة المضادة والانكفاء التركي على مشكلات الداخل، متدخلا في لحظة تراجع حرجة لحليفه الأسد، ليثبت حكمه أو على الأقل – وهذا الأكثر منطقية – ليحمي حدود دويلته المستقبلية في أي سيناريو تقسيم قد يطرح لاحقا.

وفي ظل ضعف وتشظي العالم العربي، ثمة دولتان يثار الفضول بخصوص موقفهما المنتظر إزاء التحدي الروسي الطارئ، أي الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا؛ حيث فضلت الأولى الانتظار والتروي وإصدار تصريحات “القلق” والنصائح والاستعداد للحوار، في حين لا تبدو الثانية قادرة على فعل الكثير.

ذلك أن أنقرة مشغولة أكثر بمتاعبها الداخلية في فترة عدم الاستقرار المستمرة منذ انتخابات السابع من حزيران/ يونيو الفائت والتي ستعاد في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، والحملة العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني الذي استثمر الضبابية السياسية في البلاد ليبدأ حملة تصعيد جديدة منذ أشهر، فضلا عن التراجع الاقتصادي المتأثر بكل ذلك إضافة إلى بعض الأزمات الاقتصادية في الإقليم والعالم وفي مقدمتها الصين واليونان.

لقد كانت هذه العوامل من ضمن أسباب أخرى كثيرة، نظرية وعملية، لانتهاج أنقرة سياسة الانتظار طوال السنوات الماضية من عمر الأزمة السورية، رغم أنها من أكثر الدول تأثرا بها، سواء لجهة ملف اللاجئين أو لجهة الحدود الطويلة المشتركة واحتمالات امتداد الشرر السوري لداخل الأراضي التركية.

كانت هذه الموانع، النظرية والعملية، كافية لكبح جماح صانع القرار التركي حين كان الصراع إقليميا (تنافسا مع إيران بالدرجة الأولى)، فكيف بها حين ترقى ليصبح دوليا بامتياز؟ إذ هل يمكن لمن لم يحسن اللعب في دوري الدرجة الأولى أن يحسن اللعبة ويفوز في الدرجة الممتازة؟!!

إن التدخل الروسي يعقد الحسابات التركية بشكل غير مسبوق، ليس فقط لأنه تدخل عسكري من دولة كبيرة على حدودها، ولا لأن الدب الروسي بدأ بقصف “المعارضة السورية المعتدلة” المحسوب جزء منها على تركيا وحسب، ولا لأن بوتين قد خلط الأوراق وقوّى ظهر الأسد في فترة لا يسيطر فيها الأخير على أكثر من 20 بالمئة من سوريا حصرا، ولكن أيضا لأن لروسيا يدا طولى على تركيا في الملف الاقتصادي وخصوصا الغاز الطبيعي، ضمن ميزان تجاري مائل بشدة لمصلحة القيصر الروسي، وهو ما يجعل الخيارات التركية محدودة جدا وربما باهظة الثمن إن أغضبت موسكو في فترة تذبذب الاقتصاد التركي الحالية.

الأكثر خطرا بالنسبة لأنقرة أنها ستكون دولة المواجهة والمقدمة في حال نشب أي نزاع بين الدب الروسي وحلف الناتو الذي تنتمي إليه، وبذلك ستكون أمام فكي الكماشة الروسية، بين الوجود الفعلي في الشرق والتواجد المستحدث في الجنوب، رغم أنه احتمال ضئيل الحظوظ حاليا .

من ناحية أخرى، سيكون أي سيناريو لتقسيم سوريا ولو بلغة الأمر الواقع وبشكل غير رسمي -وهو ما قد تهدف إليه التحركات الروسية الأخيرة- كارثيا على تركيا بكل ما تحمل الكلمة من معنى؛ فإضافة إلى ما لمجاورة دولة مفككة متشظية من مخاطر مبدئية وعملية معروفة، ستكون الحدود الجنوبية لأنقرة مسرحا لدويلة كردية تذكي النزعات الانفصالية لأكرادها وتعطي مساحات إضافية من العمل العسكري لحزب العمال الكردستاني بما يضعّف من إمكانية الخروج من دوامة التصعيد الحالية ويصعّب العودة لطاولة التفاوض السياسي.

ما الذي يبقى إذن في الجعبة التركية لتخرجه في سوريا؟ وهل عقمت الحلول لديها؟

أعتقد أن الموقف التركي -بعد التطورات الأخيرة- سيكون أكثر ارتباطا بالموقف الأمريكي من الفترة السابقة، وهذا يعني أنها ستتراوح بين موقفين:

الأول: سياسة الانتظار التي انتهجتها حتى الآن، لكن بارتقاب التحرك الأمريكي المنتظر، بين إمكانية المواجهة -غير المتوقعة قريبا- ومبدأ “التوريط” والضغط السياسي.

الثاني: زيادة الدعم للفصائل العسكرية السورية بما يزيد من كلفة التواجد الروسي على الأراضي السورية، أي تفعيل سيناريو الاستنزاف الأفغاني على المدى الطويل.

في الخلاصة، لا يمكن للتدخل الروسي أن يحسم الموقف في سوريا من خلال القصف الجوي الحالي، ولا يتوقع له أن يقلب الحقائق على الأرض، وبالتالي فهو تواجد طويل المدى يجعلنا لا نتوقع ردود فعل حاسمة أو متشنجة أو مستعجلة. لكن الطروف التركية المذكورة أعلاه تقربنا من الظن بأن موقف أنقرة سيكون أكثر التصاقا بواشنطن -خاصة قبيل الانتخابات المصيرية القادمة- وهو ما قد يرشحها لمزيد من التنازلات التكتيكية أمام حليفتها الاستراتيجية من أمثال الموقف من “إنجيرليك” قبل أن يكون الحديث عن موقف تركي قوي أو مستقل ممكنا ومتاحا.

المصدر : عربي 21 

زر الذهاب إلى الأعلى