“١٧ واحد قتلت يا محمود! قتلت ١٧ واحد! بفتخر فيك أنا يا أمي”. هذا ما قالته أم محمود قبل شهرين أمام كاميرا إحدى الموبايلات في وداع إبنها. محمود ذهب إلى سوريا ليقاتل إلى جانب “حزب الله”، ليقتل ١٧ سورياً قبل أن يُقتل. لو أنه لم يُقتل كان عدد ضحاياه “إنجازاته” ليكون أكبر ربما! وأمه فخورة به.
في إحدى كتبه، يتحدث المفكر اللبناني فواز طرابلسي عن أم مسيحية لابن شيعي كان يقاتل في الحرب الأهلية ضد أبناء ملّتها! سألوا الأم ما إذا كانت تفضل أن يكون ابنها “قاتلاً أو مقتولاً”، فأجابت بلا تردّد، أو بتردّد لا فرق: قاتلاً! لتجرّب كل أمّ أن تسأل نفسها هذا السؤال! إن مجرّد التفكير بالإجابة، يقبض على الروح ويقلّص القدرة على التنفس. هنا، في هذا المكان بالضبط، ترتطم العاطفة بالأخلاق والقيم ويروح الضمير يلهث في مكانه عاجزاً عن التقاط أنفاسه.
عندما يتعلق الأمر بالإبن، تنجلي تلك البديهيات الأخلاقية والثقافية والفكرية. لكن أن تفتخر أمّ بعدد القتلى الذين سقطوا على يد ابنها، فهذا أمر آخر. لهؤلاء القتلى السبعة عشر، أمهات، وآباء، وأخوات وأخوة وزوجات ربما وأولاد وحيوات وتاريخ وذاكرة ووطن يدافعون عنه! كما أنهم سوريون قبل أي شيء آخر. إبنك يا أم محمود قتل ١٧ سورياً، يعيشون كانوا بسلام في بلدهم “الشقيق” لبلدكم! وربما ربطت بعضهم قرابة باللبنانيين حيث نسمع عن تاريخ المصاهرة بين الشعبين. ابنك يا أم محمود قتل ١٧ شاباً ينتمون إلى شعب بطل لم تستطع البراميل إخراسه حتى هذه اللحظة. ابنك قتل ١٧ رجلاً فتحوا صدورهم لرصاص حزبكم، لا لرصاص إسرائيل! وإبنك قتل ١٧ سورياً لا إسرائيلياً.
الاحتفاء بالموت بات تيمة يومية بعد الثورات العربية. الاحتفاء بالموت وبالميت وبفعل التضحية بالنفس فداء الوطن. لكن أن نشهد الاحتفاء بالقتل فهو أمر غير بديهي. وليس أي احتفاء! ثمة أمّ بكل ما تعنيه تلك المفردة تحتفي بفعل القتل الذي مارسه ابنها قبل أن يُقتل. أي أنها ربما كانت ستعرض لنا لقطات من ارتكابه لفعل القتل لو توفرت لديها. لن يكون صعباً عليها أن تشاهد بعينيها كيف تحول ابنها إلى قاتل يقتل بالسلاح أو بيديه. إنها فخورة بابنها لأنه قتل ١٧ شاباً سورياً. ويتساءل المتفرّج من أين تأتي كل هذه الكراهية للشعب “الشقيق”. سنفترض أنها أرسلت ابنها بطيب خاطر وبأن الحزب لم يأخذه قسراً لمعارك الموت، وبأنها مقتنعة في سرّها بأن القضية وطنية وبأن ابنها يقوم بواجبه تجاه أمّته وطائفته، سنفترض كل تلك الأمور النسبية وغير المنطقية، لكن هل يصل بها طيب الخاطر ذاك والواجب الوطني، أن تفخر بابنها القاتل؟ تلك المرأة التي تحدّث عنها طرابلسي في كتابه، اختارت بصراحة أن يكون ابنها قاتلاً لكن القصة انتهت عند ذلك الخيار. لم تضف الأم أنها ستفخر به إن ارتكب فعل القتل وستجلس كل مساء أمام شباك غرفتها تحصي عدد ضحاياه.
قبل يومين، شاهدت شاباً فلسطينياً، ممدّداً على إسفلت الشارع، رأسه ينزف بغزارة، يحاول النهوض بمشقة، فيركله مستوطن ويمنعه من النهوض. يقول له صارخاً: “مت يا إبن ال…. مت.. مت..”. يأمره أن يموت! تلك الفظاظة والوحشية، جعلتني أرتجف بين كلماته. شعرت أن أرواحنا تفقد يوماً بعد يوم جزءاً من إنسانيتها. أرواحنا نحن المتفرّجون في بيوتنا على ما يحدث على بعد مئات الكيلومترات. وأنا أعترف أنني منذ بداية الثورة السورية، وتحديداً منذ سقوط أول برميل، منذ موت أول معتقل، تبدّل شيء ما في داخلي حيال القضية الفلسطينية. ذلك التغيّر لم يكن منبعه تشكيكي بشرعية القضية، بل إنه البؤس من موقف معظم النخب العربية وخاصة الفلسطينية من ثورة شعب عظيم أنتمي إليه. والحال أنني أعترف أيضاً، عدم تأثري بشكل مباشر بالاحتلال الإسرائيلي. تعلّمت مثل جيلي والأجيال السابقة واللاحقة أن العدو هو إسرائيل، وأي إسرائيلي هو عدوّي الوحيد في العالم.
تعلّمت أن جزءاً من “وطني” محتل. لكنني لم أتعلّم عن محاولات حثيثة ل”حماة الديار” لتحرير ذلك الجزء المحتلّ. حتى أنهم لم يعلّمونا في المدارس عن الجولان وعن “إخواننا في الجولان السوري المحتل”، كما كانوا يردّدون كالببغاوات في المدارس وفي نشرات الأخبار. لا نعرف شيئاً كنّا عن طبيعة الجولان وعن حياة سكّانه وعن معاناتهم، كما لم نكن نعرف ماذا تعني درعا ودير الزور وحلب وحماة وإدلب. نعم، منذ أول قتيل سوري على يد “حماة الديار” وشبيحة النظام، ووقوف الكثيرين مع طاغية يقتل شعباً دفع ثمن قضايا تحرّر شعوب الغير، لم أعد أنتبه لقضية غيري. إننا مشغولون بقضيتنا. إننا نموت هناك تحت القصف والبراميل والكيماوي واقتلاع الأظافر والحناجر. وإن ساءكم الوقوف إلى جانب قضيتنا، لا بأس. لكن فلتصمتوا بدل التصفيق لسيل الدماء، فلتصمتوا بدل المشاركة بقتل فلسطينيي اليرموك! إنهم فلسطينيون مثلكم! أتشاركون عدوّكم في قتل أعدائه!
إلا أن شابّاً فلسطينياً كان ممدّداً على إسفلت الشارع، رأسه ينزف بغزارة، وسط شتائم المستوطنين. تلك اللحظة، نبت في روحي وحش صغير، ورحت أشعر بيديه تستطيلان، وقدميه تلبطان، وعينيه تسيلان بكمية من الشرّ والكراهية لم أختبرهما قبل تلك اللحظة. رأيت نفسي ذلك الوحش الصغير، أتسلّل إلى شاشة الموبايل وأمسك بالمستوطن وأقتله بما أملك من طاقة. وما أشعرني بالخوف، هو أنني لم أتخيل نفسي أضربه مثلاً أو أصفعه أو أدفعه بقوة! تخيلتني أقتله، أنهي حياته، أكتم انفاسه، أيعقل!
وفي اليوم التالي، شاهدت فيديو لمجموعة من الشبّان الفلسطينين يركبون سيارات ويصعدون بها بسرعة كبيرة إلى أحد أرصفة رام الله فيدهسون مجموعة من المستوطنين بينهم حاخام. المستوطنون تطايروا في الهواء كعلب كرتون. وسقطوا وكان لسقوطهم وقع فرح في قلبي! أنا؟ أمايزال ذلك الوحش الصغير نائم خلف أضلاعي منذ البارحة؟ لم تكن لحظة شرّ عابرة إذاً. رحت أبكي. وأنا من خلف الدموع أدرك جيداً أنني مازلت فرحة بمقتلهم، إنه الثأر. إذ كيف يمكن لنا نحن المقموعون والمحكومون بالجزمة العسكرية وبالعمامة، أن نستردّ حقوقنا إلا بهذه الطريقة. ألم يصمت العالم أمام دمائنا؟ هذا إن لم نقل إنه شارك بقتلنا؟ أنقف بدورنا صامتين، عاجزين عن إنقاذ ما تبقى منا!
ثم رحت أتساءل، لماذا يفرح العرب بقتل الفلسطنيين لإسرائيليين ردّاً على عنفهم المفرط، بينما يتحول ردّ السوريين على الرصاص والبراميل والقتل والمجازر، إرهاباً؟ هل تتجزأ البطولة؟ هل الدفاع عن النفس يختلف بين فلسطين وإسرائيل؟ خاصة وأن الفلسطيني يموت على يد عدوّه (عدوّنا) التاريخي، بينما يقتل السوري على يد سوري آخر يخالفه الرأي حول عبادة الفرد والطاغية والمجرم.
ذلك الوحش مايزال في داخلي. لا أريده وأعجز عن طرده. وفي هذه اللحظة، أعترف ضمن اعترافات كثيرة، أنني أتمنى موت كل من شارك بقتل السوريين، وأحياناً كثيرة لا أكتفي بتمنّي موتهم. بل أروح أتفنّن بالطريقة! أليس قتلهم جزء من العدالة الإنسانية؟ أليس جزء من الحل لمصالحة وطنية تتيح لمن تبقى من السوريين العيش مع بعضه البعض؟
المصدر : أورينت نت