انخفاض أسعار النفط ترك تأثيرات سلبية كثيرة على الاقتصاد العراقي بل قاد إلى الشلل في بعض القطاعات بسبب اعتماد الدولة في إيراداتها كلياً على عائدات النفط. ولم تكن الدول الأخرى في المنطقة المعتمدة على إيرادات صادراتها النفطية أفضل حالاً، إذ تدنت إيراداتها إلى الثلث بسبب هبوط الأسعار إلى ٤٠ دولاراً لبعض أصناف النفط. إلا أن هذا الانخفاض لم يؤثر على اقتصادات دول المنطقة فحسب بل أثر أيضاً على قدرات الجماعات الإرهابية في العراق وسورية على مواصلة حروبها على شعوب المنطقة.
فقد انخفضت حركة تهريب النفط ومشتقاته عبر الحدود في كل من العراق وسورية وتركيا لأن أسعار المواد المهربة لم تعد مجزية للمهربين والبائعين على حد سواء، بل أصبحت مقاربة للأسعار السائدة في السوق. فقد تدنت أسعار برميل النفط الواحد المنتج من حقول النفط التي يسيطر عليها تنظيم الدولة في العراق وسورية إلى عشرين دولاراً في بعض الحقول، كحقل الطبقة الذي ينتج بجودة متدنية، لكن السعر ما زال مرتفعاً في حقول أخرى كحقل العمر في دير الزور، الذي ينتج نفطاً عالي الجودة، إذ وصل سعر البرميل المنتج فيه إلى ٤٥ دولاراً.
وتمول الجماعات الإرهابية نشاطاتها عبر استيلائها على حقول النفط في المناطق التي تسيطر عليها في سورية والعراق، وبالأخص منطقتي دير الزور والموصل، وبالتحديد حقلي العمر في سورية والقيّارة في العراق. ويقدر إنتاج هذه الحقول بحوالى خمسين ألف برميل يومياً، ما يدر على تنظيم الدولة (أو دولة الخلافة) إيراداً يفوق المليون ونصف المليون دولار يومياً حسب تقديرات «الفاينانشيال تايمز» البريطانية. وتباع منتجات هذه الحقول في أسواق المنطقة لسد حاجة السكان من الوقود، خصوصاً وقود المازوت الذي يستخدم لتشغيل مولدات الطاقة الكهربائية التي يعتمد عليها السكان كثيراً بسبب انقطاع التيار الكهربائي الذي تزوده شبكات الطاقة الوطنية. كما كانت تباع خارج المناطق التي يسطر عليها التنظيم بسبب انخفاض أسعارها سابقاً.
كان في إمكان القوات العراقية وقوات التحالف الدولي حرمان الجماعات الإرهابية من مصادر تمويلها النفطية عبر قصف الحقول التي تسيطر عليها وتعطيل إنتاجها لكن ذلك كان سيترك تأثيرات عكسية على حياة سكان المناطق التي تقع تحت سيطرة التنظيم ويلحق بهم أضراراً كبيرة وربما يزيد من غضبهم على الحكومة العراقية وقوات التحالف الدولي التي تحاول تخليصهم من سيطرته. لذلك آثرت الحكومة العراقية وقوات التحالف الدولي أن تهتم بمصلحة السكان على أن تلحق أضراراً بقوات التنظيم، خصوصاً أن الضرر سيكون شاملاً وبعيد الأمد لأنه سيطاول البنية الأساسية لاقتصاد المنطقة.
وعلى رغم الأضرار البالغة التي تحدثها الجماعات المسلحة في البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمنطقة التي تسيطر عليها وقيامها بشن هجمات على المناطق المجاورة، فالاهتمام بمصالح السكان وحياتهم يجب أن يحظى بأولوية، إذ يكفيهم أنهم يعيشون تحت سيطرة تنظيم إرهابي متخلف منذ ما يقارب العامين في بعض المناطق كالفلوجة وأكثر من عام في الموصل وأكثر من خمسة أشهر في الرمادي.
المعركة حول منطقة بيجي التي تضم أكبر مصفى لتكرير النفط في العراق مستعرة منذ العام الماضي، وفي كل مرة تتمكن القوات الحكومية من طرد عناصر التنظيم من المنطقة فإنهم يسعون بقوة إلى العودة للاحتفاظ بالمصفى عبر تقديم خسائر بشرية كبيرة. وقد خيضت أعنف المعارك في منطقة المصفى حتى الآن وما زال الجانبان يدعيان السيطرة على المصفى، إلا أنه يمكن القول إن القوات الحكومية العراقية تفرض هيمنتها على محافظة صلاح الدين، لكن عناصر التنظيم ما زالت موجودة هنا وهناك. وعلى رغم أن الحكومة العراقية دائماً تعلن أنها تمكنت من طرد عناصر التنظيم من المصفى (أو بنسبة 80 في المئة منه كما أعلن مرات عدة) أو أنها تسيطر عليه كلياً، فجماعة تنظيم الدولة لا تزال موجودة على ما يبدو وتسيطر على بعض المناطق في بيجي ومحافظة صلاح الدين لأهميتها الاقتصادية للتنظيم.
ومع أن تنظيم الدولة لا ينفق كثيراً على الخدمات التي تقدم للسكان الذين يسيطر عليهم فإن نقص إيراداته بسبب تدني أسعار النفط قد أثر وسوف يؤثر سلباً على قدرته على السيطرة على السكان، ومهما كان تعامله وحشياً معهم فإنه لن يستطيع البقاء مسيطراً ما لم يحصل على الأموال التي تمكنه من دفع الرواتب لعناصره وشراء الأسلحة والعتاد ودفع بقية التكاليف. لذلك فإن تناقص إيراداته وتزايد عدد القتلى بين صفوفه واشتداد الحملة الدولية والوطنية ضده، ستقود بمجملها إلى إضعافه كثيراً وحتى انهياره كلياً خلال فترة أقصر بكثير مما لو بقيت أسعار النفط مرتفعة.
الكثير من المعطيات يشير إلى أن التنظيم بدأ يفقد سيطرته على المنطقة وإنه مقبل على تراجع يهدد وجوده كلياً بل ربما اندحار نهائي إن تمكنت الحكومة من استخدام أوراقها في شكل جيد وإرضاء سكان المنطقة الذين عانوا من وجوده. على رغم ذلك، فإن ليس بالإمكان معرفة متى سيسقط التنظيم بالضبط لأنه لا توجد معلومات دقيقة حول الإمكانات العسكرية الخفية للتنظيم. لكن تناقص إيراداته المالية، وتزايد الضربات التي يتلقاها في كل من سورية والعراق ومقتل عدد كبير من قيادييه على أيدي القوات العراقية والتحالف الدولي، ودخول روسيا بقوة في الصراع ضده، وكونه لا يمتلك مشروع حكم قابلاً للحياة، سيجعل هزيمة التنظيم مؤكدة، على الأقل على الأمد البعيد.
غير إن الخلاف بين اللاعبين الرئيسيين في المنطقة، وهما الولايات المتحدة وروسيا، حول الأولويات وهل هي إزالة الجماعات الإرهابية وتحرير السكان والعالم من أخطارها، أم تغيير النظام السوري الذي تسبب بعض سياساته في خلق هذه المشاكل، قد يطيل أمد الصراع ويترك الحبل على الغارب للجماعات المسلحة كي تعبث بحياة السكان وتزيد من زعزعة استقرار المنطقة برمتها.
المصدر : الحياة