تشير التقارير من العاصمة النمسوية، فيينا، إلى مشاورات حثيثة يجريها الروس والأميركيون، من أجل التوصل إلى تسوية سياسية في سورية. ولا يبدو لقاء فيينا مختلفاً كثيراً عن اللقاءات السابقة التي أجريت في الأعوام الثلاثة الماضية فيما عُرف بمسارات “جنيف 1” و”جنيف 2″، فيما يمكن أن يؤدي إليه من نتائج، سواء على صعيد مصير الرئيس السوري، بشار الأسد، أو حول شكل المرحلة الانتقالية وترتيباتها.
وجاء اجتماع فيينا الذي عقد قبل أيام، وضم وزراء خارجية أميركا وروسيا والسعودية وتركيا، من دون حضور لممثلي المعارضة السورية، بمثابة اعتراف صريح بأن الصراع في سورية لم يعد بحال صراعاً محلياً أو إقليمياً، وإنما بات صراعاً دولياً بامتياز. وهو انعكاس للتحولات السريعة التي شهدتها الساحة السورية، خصوصاً بعد التدخل العسكري الروسي، والذي قلب الحسابات السياسية والجيوبوليتيكية. بل الأكثر، أنه اعتراف واضح وصريح بأن موسكو، وليست دمشق، هي من يفاوض، ومن يتحدث باسم الأسد.
نحن إذاً، إزاء تحول بنيوي وجذري في طبيعة الصراع الدائر الآن فى سورية، ما يستدعي، بالضرورة، تحولاً فى بنية المفاوضات وأطرافها ومساراتها. وهو ما دفع دولاً إقليمية إلى إعادة ترتيب أوراقها، ومحاولة تشكيل قوة ضغط، حتى لا تنفرد القوى الدولية بالتفاوض وتقرير مصير سورية، من دون اعتبار لمصالح هذه البلدان وآرائها. لذا، شهدنا تحركات سعودية وتركية مكثفة، طوال الأيام الماضية، بهدف التوصل إلى صيغة “ما”، من أجل إنهاء الصراع في سورية.
ما خرج عن اجتماع فيينا، حتى الآن، لا يعدو كونه مجرد أفكار عامة، أهمها ما طرحه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، سواء فيما يتعلق بمدة المرحلة الانتقالية المقترحة، والتي قد تتراوح بين 6 و18 شهراً، أو بإمكانية ترشح الأسد في نهاية هذه المرحلة. وهو ما رآه بعضهم تنازلاً روسياً، خصوصاً بعد أن كانت روسيا تصرّ على أن يظل الأسد في السلطة، حتى نهاية فترته الرئاسية الحالية عام 2021. يتناغم ذلك مع ما صدر عن أحد النواب البرلمانيين الروس الذين زاروا دمشق، أخيراً، وصرّح أن “الأسد مستعد لتنظيم انتخابات رئاسية، والمشاركة فيها، ولكن، بعد التخلص من تنظيم الدولة “داعش”.
لا يحمل الطرح الروسي فقط استخفافاً بالمعارضة السورية، وبأرواح مئات آلاف السوريين الذين سقطوا منذ بدء الثورة، فضلا عن ملايين المشردين واللاجئين، وإنما أيضاً بالمجتمع الدولي كله، وعدم اكتراثه بما حدث طوال السنوات الأربع الماضية، فقد نجحت موسكو، ومن خلفها طهران وحلفاؤها، فى الوصول بسقف التنازلات الممكنة إلى حد الإبقاء على الأسد، على الرغم من كل جرائمه وكوارثه، في السلطة ضمن أي ترتيبات ممكنة للمرحلة الانتقالية.
وقطعاً، سيُصاحب أي حديث أو ترتيبات بشأن مصيره، بعد هذه المرحلة، إعطاءه ضمانات سياسية وقانونية، تضمن عدم محاسبته على تلك الجرائم التي ارتكبها، أو محاكمته عليها أمام المحكمة الجنائية الدولية. بكلمات أخرى، إننا إزاء عملية “إنقاذ” روسية للأسد، لا تضمن فقط تحصينه مستقبلاً، وإنما أيضا تجعله لاعباً شرعياً وأصيلاً فى ترتيبات المرحلة الانتقالية التي تجري مناقشتها حالياً.
بل الأنكى، أن تستخدم روسيا كل حيلها وألاعيبها من أجل خفض سقف التوقعات الخاصة بمآلات المحادثات الحالية، حيث تطرح عدم دعوة إيران إلى محادثات فيينا كما لو كانت تنازلاً، في مقابل تراجع واشنطن عن رفض وجود الأسد في المرحلة الانتقالية، حسبما أشارت التقارير الإخبارية الواردة من فيينا، وهو ما يبدو أن واشنطن على استعداد لقبوله.
يشير الموقف الروسي من بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية وبعدها إلى أمرين، أولهما أن موسكو باتت اللاعب الرئيسي والأهم في الصراع في سورية، والذي في وسعه أن يحدد وجهة الصراع ومآلاته، وربما الحل النهائي للأزمة. وثانيهما، أن في مقدور موسكو إعادة رسم التوازنات والتحالفات فى المنطقة، من خلال تقوية موقف حلفائها وتوفير الحماية الإقليمية لهم، خصوصاً بعد انتهاء المرحلة الانتقالية.
بكلمات أخرى، تبدو روسيا كما لو كانت الطرف الوحيد الذي سوف يستفيد من مآلات أي مخرج للأزمة السورية، بغض النظر عن طبيعة هذا المخرج وشكله. وقد عززت من موقعها على طاولة المفاوضات، بعد تدخلها العسكري المباشر في سورية، وتحولها من مجرد وسيط، ولو غير نزيه، إلى لاعب أساسي في الصراع.
وإذا كان متوقعاً أن تجتمع الأطراف الإقليمية والدولية للأزمة السورية، بعد أيام قليلة في فيينا، من أجل ترجمة الطرح الروسي إلي اتفاق أو وثيقة، يمكن على أساسها التوصل إلى حل سياسي للأزمة، فإن مصير الأسد بات معروفاً، وهو أنه سيظل في السلطة طوال المرحلة الانتقالية، ما يعني العودة إلى “نقطة الصفر” مجدداً، مثلما حدث بعد اتفاق جنيف 1، الذي ظل مجرد حبرٍ على الورق.
المصدر : العربي الجديد