فاتت غزاة سورية ملاحظة تطورات مهمة، حدثت في بلادنا خلال العامين الماضيين، تستند إلى واقعتين يصعب على أي مراقب أن لا يتوقف عندهما، مهما كان منحازاً للنظام وشبيحاً. أولاهما اتساع مقاومة النظام وحلفائه، وانتشارها إلى كل بيت وقرية وبلدة وحي وزقاق.
يكفي أن يتابع المرء أسماء الأماكن التي يقصفها الطيران الروسي وجغرافيتها، حتى يضع يده على حقيقة ساطعة، هي أن أغلبية السوريين تحولوا في كل مكان من وطنهم إلى مقاومين، وأن تثبيت النظام يحتم كسر شوكة رجالهم ونسائهم وأطفالهم، وأن من لا يقاومون بالسلاح أو من وقفوا على الحياد، أو أيدوا النظام وقاتلوا في صفوف شبيحته، شرعوا يفرّون من سورية، ويندسون بين طالبي اللجوء في أوروبا. ومع أن هناك من يرى النظام وراء هجرتهم، فإنني أعتقد أن حاجته إليهم لا تسمح له بالتخلي عن الأعداد الكبيرة منهم التي تهاجر من مناطقه إلى الخارج، في عمليات أقرب إلى النجاة بالنفس منها إلى التخطيط السياسي.
وتتجلى الواقعة الثانية في إصرار السوريين على القتال حتى الانتصار، مهما كلفهم موقفهم من تضحيات. هذا الإصرار يلمسه كل من يحتك بمواطنات ومواطني الداخل والخارج الذين يؤمنون أنهم قطعوا المسافة الأكبر من طريقهم إلى النصر، وأن أحداً لن يتمكن من إنقاذ الأسد ونظامه، روسياً كان أو إيرانياً، بدليل تعاظم المقاومة في كل مرة دخل فيها غزاة جدد لإنقاذ النظام، وتعرّض هؤلاء بدورهم لهزائم متصاعدة.
أما أولى التطورات التي تلفت أي مراقب، فهي انتقال المقاومة المسلحة المتعاظم من وضع تنظيمي يغلب عليه طابع المحلية والعشوائية إلى حال نقيض، قرّبته أكثر فأكثر من وضع جيش تحرير وطني، يخضع أكثر فأكثر لتنسيق قيادي متزايد، وتعاون ميداني ملزم، حتى أنه من الصعب أن نجد اليوم منطقة ليس فيها تشكيل مقاتل يحمل اسم جيش أو يطمح لأن يكون جيشاً، بينما حدث تطور معاكس على صعيد النظام، حيث تفكك الجيش، وتحول إلى مليشيات وأمراء حرب (نموذجهم سهيل الحسن) أو استقوى بمليشيات محلية وأمراء حرب. واليوم، يشكو قائد الطيران الروسي في بلادنا من هذه الظاهرة، ويعلن أن القصف يفضي إلى انسحاب مقاتلي الجيش الحر وتقدم القوات الأسدية.
ولكن، ما أن يتوقف عمل الطيران، حتى يعود المقاتلون إلى حيث كانوا ويفر الأسديون، وينسب الجنرال الروسي الأمر إلى عدم وجود جيش حقيقي، بل أخلاط مسلحين متعددي الجنسيات (المرتزقة) أو إلى ضعف المعنويات، وعدم وجود رغبة في القتال لدى هؤلاء، ويقول إن طيرانه لن يحقق شيئاً في وضع كهذا.
يرتبط بهذا التطور نمو الطابع الوطني لوحدات الثورة المقاتلة، وتحولها المتزايد من تنظيمات ذات ملامح مذهبية وبرامج طائفية إلى جهات، تقترب في مواقفها وخياراتها، من مواقف ومفاهيم وطنية جامعة. لهذا، تتراجع اللغة الطائفية والحسابات الجزئية والمذهبية تدريجياً، وتتقدم، بدرجات متفاوتة من السرعة، قواسم مشتركة تخفت فيها النزعات الانتقامية والإقصائية، بينما يمعن خطاب النظام في التراجع عن الروح الوطنية الجامعة الذي كان يستخدمه لأغراض قمعية ودعائية، وليس لأنه خياره الحقيقي، ويغرق أكثر فأكثر في الطائفية والتحريض المذهبي، ويستعين بقوى مذهبية وطائفية عربية وإقليمية، ويفقد قدرته على التضليل، خصوصاً بعد ترحيبه باحتلال روسيا بلاده، وتشجيع الروس على إقامة قواعد دائمة فيها، وسكوته عن تنسيق علاقات موسكو العسكرية مع تل أبيب، وإقامة قيادة مشتركة بين جيش الغزو الروسي وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وسقوط أكذوبة الممانعة، بعد إعلانات إسرائيلية متكررة كرّست لدعم الأسد ونظامه “الممانع”، وبعد انخراط الكيان الصهيوني في شراكة ممانعة مع حزب الله ضد شعب سورية.
هذه الوقائع والتطورات علامات جديدة على تحولات ميدانية وسياسية من طبيعة حاسمة، سيكون من الصعب على قوة غازية تجاوزها، حتى إن كانت في قوة روسيا التي بدأت تصريحات قادتها تبدي القلق مما تكتشفه على الأرض من أوضاع لا تبشر بنصر، قد تحمل الروس أعباء لا يقوون على حملها، كإرسال قوات كافية لخوض القتال، نيابة عن شبيحة فاشلين، وضعوا يدهم في أيديهم، فوضعوهم أمام خيارين أحلاهما مر: القتال نيابة عنهم مع ما يرتبط بذلك من احتمالات كارثية بالنسبة لهم، أو الخروج من المستنقع السوري الذي يمثل كارثة استراتيجية بكل الأبعاد والمعاني.
لا أحد يستطيع القفز من فوق خياله، يبدو أن الروس سيجرّبون حظهم، قبل أن يكتشفوا أنهم يدقون عنقهم بسبب أكذوبةٍ أقنعوا أنفسهم بها، هي أنهم يقاتلون الإرهاب، ويدافعون عن نظام شرعي.
المصدر : العربي الجديد