مقالات

أسامة أبو ارشيد – “تركيا… ديمقراطية الديكتاتور”!

عنوان هذا المقال كان العنوان الذي اختارته فضائية عربية، في تغطيتها نتائج جولة إعادة الانتخابات البرلمانية التركية، والتي حقق فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم فوزاً ساحقاً سيمكّنه من تشكيل الحكومة منفرداً، كما كان عليه الحال منذ عام 2002. ولم تبخل تلك الفضائية وضيوفها، وغيرها من الفضائيات والإعلام العربي المعادي لتركيا، لأسباب مختلفة، في إطلاق تهكمات كثيرة على “السلطان” رجب طيب أردوغان، رئيس تركيا، و”توبيخ” حزب العدالة والتنمية لإشاعته، كما زعموا، أجواء من الخوف والترهيب والقمع للإعلاميين والمعارضين، واستغلال النعرة القومية ضد الأكراد، بشكل أثر على سير العملية الانتخابية ونزاهتها.

المشكلة الوحيدة أن تلك الفضائية تبث من عاصمة عربية، يسودها الخوف والقمع، ولا يحلم فيها المواطن بانتخابات، ولو حتى على مستوى “عريف” صف مدرسي، دع عنك أن إعلامها، كما جُلُّ الإعلام العربي، هو إعلام نظام لا ينطق إلا باسمه ولا يسبح إلا بحمده.

هذا لا يعني أن تركيا تحت حكم “العدالة والتنمية” دولة منزهة عن الأخطاء وبريئة من مساعي مدِّ النفوذ والهيمنة إقليميا. أيضا، ثمة ملاحظات كثيرة، مشروعة، تثار حول مسلك أردوغان، من حيث محاولته تعزيز صلاحيات مؤسسة الرئاسة التي يتربع على كرسيها، وسعيه الناجح إلى تهميش الأصوات المعارضة له، حتى من داخل حزبه، غير أن هذا لا يقلل من نجاح التجربة التركية، ولا يجعل من تركيا عدواً. فتركيا دولة إقليمية كبيرة، قوية ومؤثرة، وهي تتحرك ضمن منظومة مصالح الدولة، من دون أن ينفي ذلك أنها أقرب إلى النبض الشعبي العربي فيما يتعلق بمقارباتها في المنطقة، كما يتضح في الملفات الفلسطينية والسورية والمصرية. ومن ثمَّ، فإن من العبث استعداء دولة كتركيا وحزب كـ “العدالة والتنمية” الذي أعاد إدماج تركيا ضمن منظومتها العربية والإسلامية، بعد عقود من الاغتراب.

ولعل هذه القراءة المُتَمَعِّنَةِ، وهذا الفهم العميق، لثقل الدور التركي في المنطقة والدور الموازن الذي يمكن أن يلعبه في موازاة مساعي التخريب والهيمنة الإيرانية الإسرائيلية، هو دافع دولة مثل قطر إلى التحالف مع أنقرة، وهي القراءة نفسها التي انتبهت لها فيما بعد الدبلوماسية السعودية بعد الاتفاق النووي مع إيران، وإطلاق يدها التخريبية، أميركيا، في المنطقة. إذن، لمصلحة من تتم معاداة تركيا من بعض الدول العربية؟

يُجْمِعُ على عداء تركيا، اليوم، تحت حكم “العدالة والتنمية”، ثلاث جهات رئيسة: إسرائيل ومن ورائها دول غربية كثيرة، في مقدمتها الولايات المتحدة، المستاءة من مساحة الاستقلالية التركية في سياساتها الخارجية في المنطقة، على الرغم من عضويتها في حلف شمال الأطلسي “الناتو”. فهذه الدول قد اعتادت على تركيا تابعاً لا مستقلاً، واعتادت إسرائيل على تركيا، مبرراً لجرائمها، لا مُديناً لها ومدافعاً عن حقوق الفلسطينيين. ومن ثمّ، فلا تعجب، مثلاً، من حجم الهجمة المسمومة على تركيا في الإعلام والكونغرس الأميركيين في السنوات الأخيرة.

الجهة الثانية، إيران وتابعوها، مثل نظام بشار الأسد في دمشق، والحكومة العراقية في بغداد، وحزب الله في لبنان، ومن لفّ لفّهم. فهؤلاء يرون في تركيا نقيضاً لمساعي الهيمنة الإيرانية على المنطقة، ورديفاً للمطالب المشروعة للشعب السوري بالحرية والانعتاق. الجهة الثالثة تضم حلفاً واسعاً من بعض الدول العربية الرافضة للإصلاح والتغيير، والمعادية لما تسميها حركات “الإسلام السياسي”، ومن ثَمَّ فهي تخشى أن تركيا تحت حكم “العدالة والتنمية”، بتجربته الناجحة في الحكم أكثر من ثلاثة عشر عاماً، قد تكون معززا لحظوظ تيار “الإسلام السياسي” في بلادها. ولعل في تصعيد الإعلام المصري من هجمته الشرسة التي يشنها، منذ سنوات، على تركيا وحزب العدالة والتنمية الحاكم، بعد نتيجة انتخابات الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، ما يؤكد ذلك. 

توافقت هذه الجهات الثلاث، وإن بشكل غير مباشر، على محاولة تقويض الاستقرار في تركيا، خصوصاً عبر العبث بملف الأكراد فيها، وهي قد نجحت فعلاً في إعادة بعث هجمات حزب العمال الكردستاني العام الجاري، بشكل وضع اتفاق السلام الذي توصلت إليه الحكومة التركية، بقيادة أردوغان عام 2013، مع الأكراد، في غرفة الإنعاش. وبالمناسبة، فإن مصدر اتهام هذه الأطراف الثلاثة بالسعي إلى تقويض الاستقرار في تركيا الحكومة التركية نفسها، لكن المقام هنا لا يتسع لذكر التفاصيل.

وعودة إلى الجهة الثالثة المعادية لتركيا تحت حكم “العدالة والتنمية”، والمتشكلة من دول عربية رافضة الإصلاح والتغيير، والمعادية لما تسميها حركات “الإسلام السياسي”. فهذه الدول، كما الجهتان الأولى والثانية، سالفتا الذكر، شمتت بفقدان حزب العدالة والتنمية أغلبيته المطلقة في الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران الماضي، قبل أن تَبْهَتَهُمْ نتائج جولة الإعادة قبل أيام. كان منبع شماتتهم، بالدرجة الأولى، أن تجربة “العدالة والتنمية” قصة نجاح تُعَرٍّي فشلهم وإخفاقاتهم، وبالتالي، فإنها تصب، حسب خَطَلِهِمْ، في خانة تعزيز فرص “الإسلام السياسي”. قارن، مثلا، تركيا مع مصر اليوم. كلتا الدولتين متقاربة من حيث المساحة والسكان، مع أفضلية لمصر. فالناتج المحلي الإجمالي لتركيا لعام 2015 هو 1.586 ترليون دولار أميركي، في حين أنه 989.886 مليار دولار بالنسبة لمصر. وفي حين يتجاوز دخل الفرد في تركيا، تحت حكم “العدالة والتنمية”، عشرة آلاف دولار سنويا، فإنه بالكاد يبلغ ثلاثة آلاف دولار في مصر. وحالياً، يحتل اقتصاد تركيا المرتبة السّابعة عشرة عالميّاً، والسّادس في القارّة الأوروبية، في حين أنك لا تجد مصر في قائمة الدول الخمسين الأولى على جداول الترتيب الاقتصادي الدولي.

النقطة المركزية، هنا، أن تركيا لم تكن هكذا حتى عام 2002، حين انتخاب حزب العدالة والتنمية، وهي كانت، من حيث الأرقام، أقرب إلى مصر، وكثيراً ما عصفت بها قلاقل سياسية واقتصادية، أثرت على استقرارها. ولكن، ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، بدأت عملية البناء والترميم للهياكل الاقتصادية، وأطلقت حكومات “العدالة والتنمية” يد الاستثمار في البلاد، وحاربت الفساد، واستثمرت في البنية التحتية للبلاد، وعزّزت برامج الرعاية الصحية والرفاه الاجتماعي. بل إن تركيا سددت كل ديونها لصندوق النقد الدولي عام 2013. وعندما راهن بعضهم على انهيار الاقتصاد التركي هذا العام جرّاء الفوضى في المحيط الإقليمي لتركيا، وانهيار اتفاق السلام مع الأكراد، فاجأت الأرقام الجميع، إذ تبين أن نمو الاقتصاد التركي زاد بنحو 3.8% عن العام السابق. قارن ذلك كله بمصر اليوم، حينها ستعرف بعض أسباب هذه الحملة على تركيا من بعض الدول العربية.

باختصار، يمقت الغرب وإسرائيل تركيا اليوم، لأنها اقتربت أكثر من حضنها العربي والإسلامي على حساب التبعية لهم. ويحذرنا محسوبون على محور إيران أن “العثمانيين الجدد” قادمون، في حين يغضون الطرف عن تهديدات “الفُرْسِ الجدد”. ويقرع بعض المحسوبين على تيار القمع العربي أجراس الإنذار، تحذيراً من “ديمقراطية الدكتاتور”. وللصنف الأخير نقول: أعطونا بعض نجاحات حزب العدالة والتنمية، ولكم منا تسليم بـ “ديكتاتورية” كـ “ديكتاتورية” أردوغان. فعلى الأقل، فإن “ديكتاتوريته” متأتية برضا الشعب وبصوته، أما ديكتاتورياتكم فرغماً عنا. 

المصدر : العربي الجديد 

زر الذهاب إلى الأعلى